مقالات قديمة

أخرجوا الجاحظ من قريتكم – فتى الأدغال

الجاحظُ من كِبارٍ النّوابغ في القرن الثالثِ الهجريِّ، بلغَ الغايةَ في علم ِ الأدبِ والكلام ِ حتّى فاقَ أهلَ عصرهِ ، وتفنّنَ في التصنيفِ والتأليفِ فلم يُزاحمْ في ذلكَ ، ورُزقَ السعادة َ التامّة َ والحُظوة َ العالية َ عندَ عامّةِ النّاس ِ ، حتّى عُدَّ في عصرهِ أعظمَ منشئ وأكبرَ عالم ٍ بينَ أهل ِ مذهبهِ .

ومِمّا يُستظرفُ من خبر ِ شُهرتهِ وذيوع ِ أثرهِ وشيوع ِ كُتبهِ ، ما قيلَ لأبي هفّان ٍ الشاعر ِ : لِمَ لا تهجو الجاحظ َ وقد ثلبكَ وأخذ َ بمُخنّقكَ ؟ ، فقالَ : أمثلي يُخدعُ في عقلهِ ؟ ، واللهِ لو وضعَ رِسالة ً في أرنبةِ أنفي لما أمستْ إلا بالصين ِ شُهرة ً ، ولو قلتُ فيهِ ألفَ بيتٍ لما طنَّ منها بيتٌ في ألفِ سنةٍ .

وحسبُكَ بهذه القصّةِ دلالة ً على سِرايةِ كتبِ الجاحظِ ونفوق ِ أدبهِ ، في عصر ٍ ازدحمتْ فيهِ بغدادُ بالعلماءِ من كلِّ جنس ٍ ومذهبٍ وطائفةٍ .

نشأ الجاحظ ُ في العصر ِ العبّاسيِّ ، حينَ عُرّبتْ كُتبُ الفلسفةِ والأدبِ والحكمةِ من كُتبِ اليونان ِ ، وحاولَ الخليفة ُ العبّاسيُّ – حين ذاك – المأمونُ أن يصنعَ جيلاً من العلماءِ ، يُعظّمُ العقلَ ويتحاورُ في جوٍّ من الانفتاح ِ الفكريِّ على المخالفِ ، مُستخدماً سِلاحَ الإقناع ِ ، متحاشياً سُلطة َ الموروثِ التقليديِّ من النّصِّ ، ومُتجاوزاً لهيبةِ كلِّ شيءٍ إلا العقلَ ، هكذا أرادَ المأمونُ لبغدادَ وعلماءها ، والذين كانَ من بينهم الجاحظ ُ ، بل كانَ الجاحظ ُ – كما يقولُ البغداديُّ في ” الفرق ِ بينَ الفرق ِ ” – شيخَ المُعتزلةِ وفيلسوفها .

في هذا الجوِّ من الانفتاح ِ الفكريِّ والتحرّرِّ المعرفيِّ من جميع ِ القيودِ ، نشأتْ أكبرُ حركةِ إقصاءٍ فكريٍّ وإرهابٍ علميٍّ ، شهدها تأريخ ِ المُسلمينَ في الماضي والحاضر ِ ، وذلكَ عندما قامَ المُعتزلة ُ بدور ِ عرّابي الفتنةِ ، وأخذوا يُغرونَ صدورَ المأمون ِ على أهل ِ السنّةِ ، ويُجبرونَ النّاسَ على القول ِ بخلق ِ القرءان ِ ، ومارسوا ضدَّ مُخالفيهم شتّى أنواع ِ الإرهابِ النفسيِّ والعسكريِّ والاجتماعيِّ ، وأقصوهم عن ساحةِ المعرفةِ والعلم ِ والتعليم ِ ، وحالوا بينهم وبينَ النّاس ِ بسياج ٍ من التهديدِ والتعنيفِ .

كانَ من بينَ أولئكَ الجاحظ ُ ، والجاحظ ُ لم يكنْ – فقطَ – ضدَّ أهل ِ السنّةِ في مسألةِ القول ِ بخلق ِ القرءان ِ ، بل تجاوز َ ذلكَ وتخطّاهُ – شأنهُ شأنُ بقيّةِ المُعتزلةِ – فرمى النّاسَ في أديانهم بالتكفير ِ والرّدّةِ ، كما في رسالةِ النّابتةِ التي يقولُ فيها : ” فهذه أوّلُ كفرةٍ كانتْ من الأمّةِ …… على أنَّ كثيراً من أهل ِ ذلكَ العصر ِ قد كفروا بتركِ إكفارهِ ” ، وقالَ فيها أيضاً أنَّ الغالبَ على النّاس ِ في هذا الوقتِ هو الكفرُ .

والإقصاءُ للمُخالفِ وتكفيرهُ مشحونٌ بهِ كُتبِ الجاحظِ ، وطافحٌ بهِ آثارهُ ، فقد كفّرَ النابتة َ والرّافضة َ والحشوية َ وذكرَ أنَّ ادّعاءَ الخلافةِ لمُعاوية َ – رضيَ اللهُ عنهُ وعن أبيهِ وأمّهِ – كفرٌ ، وذكرَ أيضاً أنَّ يزيدَ ملعونٌ ومن نهى عن شتم ِ يزيدَ فهو ملعونٌ أيضاً ، وكفّرَ من يزعمُ رؤية َ اللهِ بالعين ِ ، هذا عدا عن موافقتهِ للمعتزلةِ في أصولهم الخمسةِ الشهيرةِ ، وهي أصولٌ تطرحُ المُخالفَ وتكفّرهُ ، بل وتُبيحُ دمَ الحاكم ِ الظالم ِ ، وتوجبُ على النّاس ِ الثورة َ عليهِ ، حتّى لو أدّى ذلكَ إلى إراقةِ الدماءِ وانتشار ِ الفوضى في الأرض ِ .

هذه بعضُ أقوال ِ الجاحظِ ، رائدِ مدرسةِ التنوير ِ ، وصاحبُ الفكر ِ الحرِّ .

ليستْ هذه بأوّل ِ فضائح ِ ومخازي المُعتزلةِ ، فهم قومٌ أصحابُ هوى ، فقد كفّرَ المُعتزلة ُ البصريّونَ المعتزلة َ البغداديّينَ ، وكلَّما نجمتْ من المعتزلةِ فرقة ٌ لعنتْ وكفّرتْ أختها ، فتفرقوا وتقاسموا على التفكير ِ والتبديع ِ والإقصاءِ لمن لم يدنْ بدينهم ، ولم يتفقوا على شيءٍ إلا على الخلافِ ورمي بعضهم بعضاً بالكفر ِ ، بل إنّهم فضحوا أنفسهم وسقطوا شرَّ سقطةٍ حينَ شرّدَ بهم الإمامُ أحمدُ من خلفهم ، وقعدَ لهم بكلِّ مرصدٍ ، ولم يستطيعوا دفعَ حُججهِ ولا ردَّ حِجاجهِ ، فلمّا أعياهم ذلكَ وأعنتهم ، تنادوا فخلصوا نجيّاً ، وأوغروا صدرَ الخليفةِ عليهِ وأفسدوا لهُ بِطانتهُ ، وقامَ بحبس ِ الإمام ِ أحمدَ ومنعَ النّاسَ من القول ِ بأنَّ القرءانَ كلامُ اللهِ منزلٌ غيرُ مخلوق ٍ ، واستخدمَ دونَ ذلكَ الحديدَ والنّارَ ، وقامَ بسحل ِ وسجن ِ عددٍ كبير ٍ من العلماءِ ، كلُّ ذلكَ بمشورةِ المُعتزلةِ وفتاواهم .

هؤلاءِ هم المُعتزلة ُ ، أربابُ الفكر ِ الحرِّ والبحثِ المُنصفِ النزيهِ ! ، والذين يُحاورونَ خصومهم ولا يُرهبونهم بالسلطةِ أو القوّةِ ، وأنّهم يحترمونَ الآراءَ ويتحاورونَ في جوٍّ من الانفتاح ِ الفكريِّ ولا يُقصونَ أحداً أو ينبذونهُ ، وأنّهم هم من أرسوا دعائمَ حرّيةِ الرأي واحترام ِ العقل ِ والمنطق ِ ، هكذا يصوّرهم أحمد أمين في كتابهِ ” ضحى الإسلام ِ ” ، وزهدي حسن جارالله في كتابهِ ” المُعتزلةِ “، وفاروق الدملوجي في كتابهِ ” هذا هو الإسلامُ ” .

لقد سقط َ المُعتزلة ُ في مهدِ نشأتهم ، واستبانَ النّاسُ كذِبَ دعاواهم ، وأنّهم ليسوا من الحرّيةِ والبحثِ النزيهِ في شيءٍ ، إلا بمقدار ِ ما يُتيحُ لهم نشرَ أفكارهم ومذاهبِهم ، فإن وجدوا من يُزاحمهم أو يُبادلهم الحُجّة َ ويُقارعهم ، لجئوا فزِعينَ إلى السلطان ِ مُظهرينَ لهُ النّصحَ ليُعينهم عليهِ ، ولو كانوا يملكونَ من الإنصافِ أو الحُجّةِ والبرهان ِ شيئاً ، لما فعلوا فعلتهم الصلعاءَ بإرهابِ خصومهم ومُخالفيهم ، ووضعهم في السجن ِ ومُصادرةِ آرائهم .

لا يُقابلُ المُعتزلة َ في الكذبِ والتزييفِ إلا العقلانيّونَ المُعاصرونَ ، والذين يتباكونَ على ذلك العصر ِ المجيدِ الزاهر ِ في أيّام ِ المأمون ِ ، فهم يزعمونَ أنّهُ عصرُ التحرّر ِ والانفتاح ِ ، فقد أعادَ – بحسبِ زعمهم – للإسلام ِ روحهُ وبهاءهُ ، وفتحَ للنّاس ِ آفاقَ البحثِ المُنصفِ ، ولا يزالونَ يندبونَ تلكَ السنواتِ الخوالي ، بل والأدهى من ذلك والأمرُّ أنّهم يزعمونَ أنَّ الإمامَ أحمدَ كانَ يُمارسُ الإرهابَ ضدَّ مُخالفيهِ ! ، ضاربينَ في ذلكَ أروعَ الأمثلةِ في الكذبِ المكشوفِ ، والتأريخُ حكمٌ فصلٌ عدلٌ في ذلكَ ، وهو بيننا وبينهم ليبيّنَ لنا من كانَ صاحبَ الحُجّةِ والبحثِ ، ومن هو الذي يُصادرُ الآراءَ ويقمعُ النّاسَ في أفكارهم .

ومن العقلانيينَ المُعاصرينَ رجلٌ ذكرتُ الجاحظ َ لأذكرهُ ، فهما يشتركان ِ في بعض ِ الخصال ِ ، وإن كانَ الجاحظ ُ في الثريّا مُقارنة ً بصاحبِنا ، إلا أنَّ المثلَ يُضربُ ولو بعُدَ الفارقُ ، ذلكم هو الدكتورُ : خالص جلبي ، أحدُ كبِار ِ المنظّرينَ للمدرسةِ العقلانيّةِ المُعاصرةِ ، ومن أصحابِ النزعاتِ الماديّةِ ، وهو كاتبٌ جيّدٌ في أسلوبهِ – إنصافاً لهُ – ، يُجيدُ المراوغة َ في كلامهِ ، ويشحنُ كِتاباتهِ بالمعلوماتِ الطبيّةِ والأقصوصاتِ المنسوجةِ على ألسنةِ البهائم ِ ، ويوشّحها بقليل ٍ من آخر ِ الاكتشافاتِ في العلوم ِ العصريّةِ ، ثُمَّ ينفثُ فيها بعدَ ذلكَ بشتم ِ السلفيّةِ والفكر ِ الإسلاميِّ المُعاصر ِ ، ويلعنُ جميعَ حركاتِ المقاومةِ الشريفةِ وعلى رأسها ما يحدثُ في فلسطين – كسرَ اللهُ قيدها – ، ولا ينسى كذلكَ أن يُظهرَ تخلّفَ المُسلمينَ وتأخرهم ، لدرجةِ أنّهم لا يُنظّفونَ حمّاماتِهم ! .

والجاحظ ُ في كتبهم يحطُّ على العامّةِ ، ويستطيلُ على النّاس ِ بعقلهِ ، ويُكثرُ من ذكر ِ الكلام ِ المُعترض ِ ، ويتباهى بسعةِ المعرفةِ ، وهذا صنيعُ الدكتور خالص جلبي حينَ يكتبُ ، فهو يخلقُ للقارئ جوّاً من الهيبةِ بكثرةِ ما يذكرهُ من ألقابٍ وأسماءٍ ، وعندَ التحقيق ِ والتمحيص ِ يجدُها الباحثُ زبداً رابياً ، سيذهبُ جفاءً ، وحينَ يسكتُ الرّوعُ عن القارئ سيتبيّنُ لهُ أنَّ ذلكَ هباءٌ منثورٌ ، لا يُساوي في ميزان ِ الحقيقةِ شيئاً .

وإذا أقصى الجاحظ ُ أهلَ السنّةِ وكفّرهم ، فخالص جلبي أقصى ملايينَ المُسلمينَ ، ورماهم وأفكارهم بالعجز ِ والخور ِ ، وسفّهَ أحلامهم وشوّهَ تاريخهم ، وعاثَ فساداً في تراثِهم ، مع دعواهُ النزاهة َ في البحثِ والتجرّدَ عن الهوى والموضوعيّة َ التامّة َ ! .

مكثتُ فترة ً أتابعُ كلَّ ما يكتبهُ الدكتورُ خالص ، سواءً في جريدةِ الوطن ِ أو الشرق ِ الأوسطِ ، واستطعتُ أن أكوّنَ عنهُ نظرة ً شاملة ً ، وانطباعاً كاشفاً لهُ ولأفكارهِ ، فهو يسيرُ في نفس ِ الطريق ِ الذي سارَ عليهِ العقلانيّونَ السابقونَ ، والذين بدأوا حُمُساً في تطبيق ِ الإسلام ِ حرفيّاً ، وسافروا للغربِ فانبهروا لتلكَ الحضارةِ ، وحاولوا فهمَ كُنهها وحقيقة َ ذاتِها ، ولمّا وقفوا على جزءٍ من حقيقتِها ، راحوا يبصقونَ على حضارةِ المُسلمينَ المُعاصرةِ وعلى واقعِهم ، ولبسوا الكرافتة َ والبنطالَ ، وجهّزوا التّهمَ والأحكامَ الجائرة َ ، وأخذوا يُنهكونَ ذاتَ المُسلمينَ المُعاصرينَ جلداً ونهشاً وفتّاً ، وكأنّهم هم المسئولونَ عن التخلّفِ الذي يجري ، أو اختاروهُ بمحض ِ إرادتهم ، وليتَ الأمرَ وقفَ عندَ حاضر ِ المُسلمينَ إذاً لهانَ الأمرُ ، ولكنّهُ تجاوز َ ذلكَ إلى الماضي فهاجموا الفتوحاتِ ووصفوها بأنّها استعمارٌ ووحشيّة ٌ ، ونعتوا السنّة َ بأنّها نصوصٌ ساذجة ٌ تُخالفُ العقلَ ، وجعلوا من يؤمنُ بالغيبياتِ ساذجاً مُفرطاً في السذاجةِ ، كما وصفَ الزيّاتُ الرافعيَّ بأنّهُ كان يؤمنُ بالغيبيّاتِ إلى حدِّ السذاجةِ ، وأنَّ هذا من عيوبِ الرافعيِّ ! .

لدى الدكتور ِ خالص فكرتان ِ أساسيّتان ِ ، جعلهما محورَ مقالاتهِ وفصولَ كتبهِ :

– أوّلهما : العلمُ بأسس ِ المدنيّةِ المُعاصرةِ ، ويعني بذلكَ العلمَ الماديَّ المُعاصرَ والانفتاحَ الفكريَّ والحضاريَّ على الغربِ وجميع ِ الثقافاتِ ، ويدعو في ضوءِ هذه الفكرةِ إلى ضرورةِ تجديدِ الفكر ِ المُعاصر ِ ، والتحرّر ِ من التراثِ الماضي ، وإعادة َ قراءةِ وتفسير ِ النصوص ِ ، تفسيراً علمياً يعتمدُ على المُكتشفاتِ والبحوثِ المُستندةِ للحسِّ والعلم ِ الماديِّ .

– ثانيهما : فكرة ُ السلم ِ ونبذِ العنفِ ، وينادي في فكرتهِ هذهِ بضرورةِ إلغاءِ العنفِ والحركاتِ المسلحةِ مهما كانتْ دوافعها ومبرّراتها ، ويجنحُ كثيراً بخيالهِ ويشطحُ ، فيزعمُ أنَّ العالمَ يتّجهُ عنوة ً نحوَ السلام ِ الكامل ِ الشامل ِ ، وستموتُ جميعُ الحركاتِ المسلحةِ دفاعاً أو غزواً .

وفي سبيل ِ نشر ِ هاتين ِ الفكرتين ِ والتأسيس ِ لهما ، تحوّلَ خالص جلبي إلى وحش ٍ كاسر ٍ ضدَّ إخوانهِ المسلمينَ ، فرماهم بالعظائم ِ في أعزِّ ما يملكونَ ، ألا وهو ماضيهم العاطرُ وتراثهم الزاخرُ ، فوصفَ الفتوحاتِ بالوحشيّةِ ، والتراثَ بالجمودِ ، ونادى بتحرير ِ العقل ِ من القيودِ المفروضةِ عليهِ ، ومن الفكر ِ الموروثِ من الآباءِ .

وقد حدّدَ هو ما يجبُ التحرّرُ منهُ بقولهِ : ” ولكن (من هم آباؤنا؟) والجواب على هذا صعب وحساس ومزعج ولكن لا مفر من الإجابة عليه؟ ويمكن القول باختصار إنه ذلك المخزون الثقافي من تراثنا الفكري الذي لم يعد يؤدي دورا ويؤذي مثل الجثث التي تؤذي رائحتها ويجب أن تدفن وبسرعة على السنة ” .

وأظنّنا في غنىً عن كشفِ مرادهِ لوضوحهِ ، فالموروثُ من الآباءِ والأجدادِ هو الأصيلُ من الفكر ِ النقيِّ ، والمُتلقّى عن الكتابِ والسنّةِ وفقَ اجتهاداتِ الأئمةِ المُعتبرينَ ، وهذا الموروثُ يجبُ التحرّرُ منه – كما يرى الدكتورُ – ليحلَّ محلّهُ العلمُ الماديُّ المُعاصرُ ، وأصولُ الحضارةِ وأسبابُ التفوّق ِ الصناعيِّ .

المُخجلُ في كلام ِ الدكتور ِ ، أنّهُ رجلٌ طبيبٌ حاذقٌ ، ويعرفُ أنَّ أساسَ العِلاج ِ الناجح ِ للمرض ِ هو صحّة ُ التشخيص ِ ، والحكمُ على الشيءِ فرعٌ عن تصوّرهِ ، وهو هنا شطحَ وجنحَ ، حينَ زعمَ أنَّ ما ورثناهُ من فكر ٍ هو سببُ التخلّفِ والركودِ ، وهذا في حقيقةِ الأمر ِ دعوى زائفة ٌ ، لا تثبتُ إلا في ذهن ِ مُدّعيها ، وأمّا البحثُ العلميُّ النزيهُ المُنصفُ فيرفضُها جملة ً وتفصيلاً ، ولا تثبتُ أمامهُ إطلاقاً ، وذلكَ لانفكاكِ الجهةِ بينَ الموروثِ الفكريِّ من ناحيةٍ ، وبينَ العلم ِ المُعاصر ِ الماديِّ من ناحيةٍ أخرى ، فهما لا يتعارضان ِ أبداً ، بل يوجدُ في نصوص ِ الشرع ِ المُطهّر ِ – وهو ما يُسمّيهِ الدكتورُ تُراثاً – ما يدعونا إلى الأخذِ بمعاقدِ العزِّ والقوّةِ من الحضاراتِ ، وأن نزاحمَ عليها أربابها ، ونأخذ َ من كلِّ شيءٍ بأحسنهِ ، فلماذا التحرّرُ من الموروثِ التراثيِّ ، إذا كانَ الموروثُ التراثيُّ لا يُعارضُ – أبداً- المُكتسبَ الماديَّ أو المُنجزَ الحضاريَّ ؟ .

وإنّي – واللهِ – لأتعجّبُ أشدَّ العجبِ من هذا الدكتور ِ ، على تقدّم ِ سنّهِ وسعةِ اطّلاعهِ ، كيفَ يجعلُ من الشخص ِ المُسلم ِ الثقِفِ الناضج ِ ، المُتمسكِ بدينهِ وأصالتهِ ، شخصاً ضعيفاً هزيلاً ، لا يقدرُ على مزاحمةِ أصحابِ الحضارةِ المُعاصرةِ بالرّكبِ ، ولا يجدُ لهُ بينَ صفوفهم مقعداً ، إلا إذا تخلّى عن أصالتهِ ، وانماعَ في ركبهم ، وذوّبَ شخصيّتهُ وتنازلَ عن هوّيتهِ ، وليتَ شعري : أينَ هو التنافرُ بينَ التمسّكِ بأصول ِ الإسلام ِ ومكوّناتِ الهوّيةِ الثابتةِ المعالم ِ ، وبينَ العلم ِ المعاصر ِ الماديِّ ؟ ، ولماذا يفتعلُ الدكتورُ والآخرونَ هذا الخِصامَ والفِصامَ بينهما ؟ ، إنَّ وراءَ الأكمةِ ما وراءها ، وما أظنُّ هذا الدكتورَ والآخرونَ ، إلا قوماً يُسارعونَ في رضا الأعداءِ – شعورا أو لم يشعروا – ، ويمشونَ وفقَ رؤاهم ، ليهدموا على المسلم ِ هويّتهِ ، ويمحوا مصدرَ اعتزازهِ وفخرهِ .

إنَّ الحضارة َ المُعاصرة َ بالرّغم ِ من بلوغها شأواً عظيماً ، وتفوّقها في بلوغ ِ القمّةِ في المادةِ ، إلا أنَّ أصحابها على خطر ٍ عظيم ٍ ، وبقدر ِ تقدّمهم في الحضارةِ يكونُ تخلّفهم في السلوكِ ، وانحدارهم في القيم ِ ، ومن قلّبَ عينهُ في واقع ِ المجتمعاتِ المدنيّةِ الغربيّةِ المُعاصرةِ ، يرى أمراً فظيعاً من الانحطاطِ الخلقي والتشتّتِ الأسري ، حتّى انتشرَ بينهم الطلاقُ وانحلالُ أواصر ِ الأسرةِ الواحدةِ ، وكثرَ فيهم أبناءُ الزّنا ، وضاعَ الطهرُ والشرفُ ، هذا عدا عن العنفِ وانتشارهِ ، وارتفاع ِ معدلاتِ الانتحار ِ والخوفِ والرّعبِ ، وامتلاءِ بلدانهم بعياداتِ القلق ِ والأمراض ِ النفسيّةِ ، فيا ليت تلكَ الحضارة َ أعطتهم شيئاً ممّا أخذتْ منهم ، فإن كانَ الدكتورُ مُخلصاً في كتاباتِهِ ويُريدُ الصلاحَ والإصلاحَ ، فلْيكتبْ عن هذه الأمراض ِ المُستفحلةِ فيهم ، ولْيكشفْ للنّاس ِ جميعاً ما فيها من أدواءٍ وأوبئةٍ ، وما يُعانيهِ النّاسُ في ظلِّ تلكَ المدنيّةِ من ظلم ٍ وحيفٍ ، ومن أرادَ الوقوفَ على حقائق ِ هذه الأمور ِ من عامّةِ النّاس ِ وجدها ، فضلاً عن أمثال ِ الدكتور ِ .

فلماذا كبا قلمهُ عن النقدِ في مضمار ِ في مضمار ِ الغربِ ، ونشط َ في نقدِ المُسلمينَ وتِراثِهم ؟ ، أليسَ هذا من الظلم ِ وعدم ِ الإنصافِ ؟ .

جميعُ المسلمينَ يُدركونَ ويعونَ أنَّ سببَ تخلّفهم عن بقيّةِ الأمم ِ ، يعودُ إلى عدّةِ أسبابٍ موضوعيّةٍ معروفةٍ ، ولا نحتاجُ حينَ الكلام ِ عن التخلّفِ إلى شرشحةِ وجلدِ ذاتِ المُسلمينَ ، فهم ذاقوا الويلاتِ على مدى قرون ٍ طويلةٍ ، من الاستعمار ِ وحركاتِ التغريبِ ، وهذه الحركاتُ هي التي أدتْ إلى الركودِ العلميِّ والتخلّفِ التقنيِّ ، وغيرُ ذلكَ من الأسبابِ الواضحةِ ، وأمّا رميُ العبءِ على التراثِ والماضي ، والدعوةِ إلى إعادةِ قراءةِ النصِّ أو تفسيرهِ وفقَ مُعطياتِ العلم ِ الحديثِ ، فهذا ليسَ من الموضوعيّةِ العلميّةِ في شيءٍ ، بل هو تحكّمٌ محضٌ ، واختزالٌ للمشكلةِ في جزئيةٍ بعيدةٍ كلَّ البعدِ عن الحقيقةِ .

ويجبُ أن يعلمَ الدكتورُ أنّهُ هو وبقيّة َ رِفاقهِ ، بمقالاتِهم وأطروحاتِهم ، سوفَ يؤخرونَ المسلمينَ عن الحضارةِ كثيراً ، وذلكَ لأنّهم يفتّونَ في عضدِ الأمّةِ ويرمونها بالعظائم ِ ، ويصمونها بالوهن ِ والرجعيّةِ ، ويوغرونَ صدورَ أبناءها على ماضيها وتراثها الزاهي الثرِّ ، ويشكّكونها في تأريخها وينسجونَ حولها هالاتٍ من التزييفِ للواقع ِ ، والكلُّ يعلمُ أنَّ هذه الأمةِ – بحمدِ اللهِ تعالى – ليسَ عندها أي مُساومةٍ على ماضيها ، ولن تنجحَ جميعُ حركاتِ التزييفِ لهُ ولنصوصهِ ووقائعهِ ، ومن ظنَّ أنَّ دعواتِ التحرّر ِ من رِبقةِ الماضي سوفَ تؤتي ثمارها فهو واهم ٍ راجمٌ بالغيبِ ، والأمّة ُ جميعاً قد نُقشَ في قلبها الولاءُ للماضي والاعتزازُ بهِ وبرجالها ، مهما حاولَ المدنّسونَ محوَ ذلكَ أو تغييبهُ ، وما هذه المُحاولاتُ إلا ضربٌ من الكتابةِ على الماءِ ، أو محو ِ أثر ٍ عجزتْ عن محوهِ سوافي الرّيح ِ وعوادي الزمن ِ .

ونجاحُ ذلكَ في الغربِ ، لا يدلُّ على نجاحهِ في الشرق ِ ، والبونُ شاسعٌ بيننا وبينهم ، بينَ دين ٍ محرّفٍ مليءٍ بالكذبِ والزور ِ والبهتان ِ ، وبين دين ٍ حقٍّ تكفّلَ اللهُ حفظهُ ، وقيّدَ لنشرهِ رجالاً فبلغَ الخافقين ِ ، والمسلمونَ كلّما زادتْ معارفهم من علوم ِ الدنيا زادَ إيمانُهم ، وتيقنوا صدقَ رسالتهم وقوّة دينهم ، وأمّا أولئكَ الغربُ فكلّما زادَ علمهم من علوم ِ الدّنيا ، كلّما بانَ لهم كذبُ الكثير ِ ممّا في أيدهم من كتبٍ مُقدّسةٍ ، ولذلك فشا فيهم الإلحادُ وانتشرتِ العلمانيّة ُ .

أمّا السلمُ وما أدراكَ ما السلمُ ! .

هذه النّقطة ُ الذي عشقها الدكتورُ إلى الثمالةِ ، وتغزّلَ بها يقظة ً ومناماً ، وداعبتْ أجفانهُ ولامستْ خيالهُ ، حتّى صارتْ أقدسَ كلمةٍ لديهِ ، فعندها تهونُ المبادئ وتجورُ الموازينُ ، ويُصبحُ كلُّ شيءٍ حِلاً وبلاً .

والمشروعُ السلميُّ – أو اللاعنف – هو في الأصل ِ مشروعٌ أخذ َ من غير ِ المسلمينَ ، من أمثال ِ غاندي وطاغور الهنديين ِ ، وذلكَ في صراعهما مع بريطانيا ، ثمَّ أعجبَ بهما وبفكرتهما المفكّر الجزائريُّ : مالك بن نبي ، وتبنّى ذلكَ وأيّدهُ ، وأمّا الذي ثمِلَ بهما جداً فهو الدكتور خالص ، وأصبحَ ينادي لفكرتهم بطريقةٍ عجيبةٍ غريبةٍ ، سمحَ فيها لنفسهِ بالتطاول ِ على تأريخ ِ المُسلمينَ وماضيهم ، بل وشنَّ الغاراتِ على إخوانهِ من المُسلمينَ المُعاصرينَ ، وتنكّرَ لهم أشدَّ التنكّر ِ ، ورماهم وأفعالهم بالعظائم ِ .

والعملُ المسلّحُ عندَ الدكتور ِ جريمة ٌ منكرة ٌ ، سواءً كانَ ابتداءً أو دفعاً للعدوان ِ ، وسواءً كانَ هجوماً أو مقاومة ً ، كلّها في ميزانِهِ سواءٌ ، وهو يُهاجمُ حركاتِ المقاومةِ الشعبيّةِ الشريفةِ في فلسطينَ ، ويصفُها بنعوتٍ لا تنطبقُ إلا على المجرمينَ العتاةِ ، وكأنّهُ يتكلّمُ عن شارونَ وحزبهِ ، بل ويتجاوزُ ذلكَ إلى وصفِ فتح ِ القسطنطينيّةِ بأنّهُ عملٌ وحشيٌّ يُشبهُ ما كانَ يفعلهُ استالين بالمسلمينَ في الشيشان ِ وكذلكَ ما يفعلهُ شارونُ بالفلسطينيينَ ! .

وهذه طريقة ُ العلمانيينَ المُعاصرينَ ، يُنكرونَ جميعَ العمليّاتِ المُسلحةِ ضدَّ المُحتلِّ الأجنبيِّ ، ويصفونها بأنّها إرهابٌ ووحشيّة ٌ ، وأنّ الواجبَ هو المقاومة ُ السلميّة ُ فحسبُ ، وعلى رأي الدكتور ِ فإنَّ الواجبَ على إخواننا في فلسطين ٍ أن يستقبلوا أرتالَ الدبّاباتِ اليهوديّةِ بأجسادهم الغضّةِ الطريّةِ ، فيفترشوا الأرضَ كما فعلَ غاندي ، ويرفعوا راية َ المقاومةِ بالسلم ِ ، وحينها سيخرجُ اليهودُ صاغرينَ أذلّة ً من فلسطين .

انظروا إليه كيفَ يتحوّلُ إلى شخص ٍ ساذج ٍ جاهل ٍ ، وهو يتكلّمُ عن طرق ِ طردِ المُحتلِّ الغازي الغاشم ِ ؟ .

إنَّ السلمَ وحدهُ لا يمكنُ أن يجلبَ العدلَ والاستقرارَ والأمنَ ، وإذا كانتْ حركة ٌ غاندي أو نيلسون منديلا قد آتتْ ثِمارها ، فإنَّ هذا لا يعني صلاحَ هذه التجربةِ في كلِّ زمان ٍ ومكان ٍ ، والفيتناميّونَ طردوا المُحتلَ من أرضهم بالمقاومةِ العسكريّةِ ، وضربوا في ذلكَ صوراً زاهية ً ، أصبحتْ أنموذجاً يُحتذى ، ولا ننسى كذلكَ طردَ المُحتلِّ من أراضي المُسلمينَ في المغربِ العربيِّ ، حينَ جسّدَ المُقاومونَ صوراً رائعة ً للتضحيةِ والفِداءِ ، وقدّموا ملايين ِ الشهداءِ ، حتّى آذنَ اللهُ بطردِ المُحتلِّ والنصر ِ لهم ، ولا ننسى كذلكَ حركة َ التوحيدِ المُشرّفةِ التي قامَ بها الملكُ عبد العزيز ِ – رحمهُ اللهُ – والتي قامتْ على السيفِ والعلم ِ ، فوطّدَ الأمرَ في الجزيرةِ العربيّةِ ، ولمَّ شعثها وأطرافَها ودانَ لهُ شعبُها بالسمع ِ والطاعةِ ، فكانَ ذلكَ من الأعمال ِ الخالدةِ .

فهذه صورٌ واضحة ٌ لحركاتٍ قامتْ على القوّةِ وطردِ الغازي ، وآتتْ ثِماراً يانعة ً ، فلماذا يُصادرُ الدكتورُ حقَّ الآخرينَ في المُقاومةِ ، ويخلعُ عليهم الصفاتِ الشائنة َ لهم ولعملهم ، ويصفُهم أنّهم وحشيّونَ وأنَّ عملهم غيرُ مشروع ٍ ، وأنّهُ لا فرقَ بينَ علميّاتِ الفلسطينيينَ في إسرائيلَ ولا بينَ عمليّاتِ إسرائيلَ داخلَ فلسطين ، كلّها في نظرهِ شيءٌ واحدٌ ، ويجبُ إيقافهُ والتحاورُ بالمنطق ِ والعقل ِ ، فالعنفِ يولّدُ العنفَ كما يراهُ هو .

الإسلامُ دينٌ عظيمٌ ، جاءَ بالسلام ِ والأمن ِ والرّخاءِ ، وحينَ يُهاجمُ ويُجاهدُ فإنّهُ يفعلُ ذلكَ لمصلحةٍ كُبرى وغايةٍ نبيلةٍ ، وأهلهُ العارفونَ بأحكامهِ لا يرمونَ بالأمّةِ في أتون ِ صراع ٍ إلا ولديهم من البراهين ِ الأكيدةِ ما يقوّى ما ذهبوا إليهِ ، ويُبرهنُ على صحّةِ عزمهم ، وهم كما يُجاهدونَ بالقوّةِ والسنان ِ ، فإنّهم يُجاهدونَ بالعلم ِ والبرهان ِ ، وكما يُرهبونَ بعضَ أعدائهم فإنّهم يؤمّنونَ آخرينَ ، فالمُعاهدُ في أرضهم لهُ حقوقٌ كحقوق ِ المسلم ِ ، ومن أخفرَ عهدهم في رجل ٍ فقد باءَ بإثم ٍ عظيم ٍ ، وناءَ بجرم ٍ ثقيل ٍ ، والجِهادُ في الإسلام ِ ليسَ مشروعاً لذاتِ القتل ِ ، أو نكاية ً بالكافرينَ ، أو إرغاماً لهم على التديّن ِ بالإسلام ِ ، كلاّ ، فالكافرُ لا يُقاتلُ لأنّهُ كافرٌ ، وإنّما يُقاتلُ إذا تحقّقَ فيهِ ما يوجبُ حربهُ وقِتالهُ ، وهذا هو مذهبُ جمهور ِ العلماءِ – عليهم رحمة ُ اللهِ تعالى – .

أمّا الدكتورُ وأمثالهُ فهم يصفونَ فتوحاتِ الدّولةِ العثمانيّةِ بأنّها وحشية ٌ وهمجيّة ٌ ، ولا يُعادونَ دولة ً كما يُعادونَ الدولتين ِ الأمّويّةِ والعثمانيّةِ ، وهم في هذا مُسايرونَ للمُستشرقينَ والحاقدينَ على الإسلام ِ ، والذين يُغيظهم ويُحرقهم المدُّ الكبيرُ الذي حصلَ للدولةِ الإسلاميّةِ في عهدِ بني أميّة َ ، وكذلك يغيظهم الجهدُ الكبيرُ الذي بذلهُ الأتراكُ في نشر ِ الإسلام ِ في أوروبا ، وكيف كانتْ حِصناً ضدَّ الهجماتِ الصليبيّةِ وسدّاً في وجهها ، ولهم من الحسناتِ والمآثر ِ ما يكتبُ بمدادٍ من نور ٍ في رق ٍ من العسجدِ والزبرجدِ ، ويكفيهم فخراً وشرفاً أنّهم حافظوا على فلسطين إسلاميّة ً عربيّة ً ، حتّى سقطتْ دولتُهم وباعها البريطانيّونَ لليهودِ بوعدٍ مشئوم ٍ .

والمتتبّعُ لما يكتبهُ الدكتورُ يبصرُ جليّاً أنّهُ لم يأتِ بجديدٍ في ما يطرحهُ ويكتبهُ ، فهو امتدادٌ للمدرسةِ العقلانيّةِ المُعاصرةِ ، وأحدُ رِجالِها ، يمشي معهم حيثُ مشوا ويسيرُ في فلكهم ويدخلُ معهم جحرَ الضبِّ الخربِ ، ويزيدُ عليهم في أنّهُ ماديٌّ حتى النّخاع ِ ، لا يعرفُ غيرَ المادّةِ ولا يفقهُ إلا هيَ ، فهي هجّيراهُ وديدنهُ ، وهو متابعٌ في هذا لأخي زوجهِ جودتْ سعيد ، فهما يحتذيانَ مدرسة ً واحدة ً ، تقومُ على التفسير ِ الماديِّ للتاريخ ِ ، وتعظيم ِ مظاهر ِ المادّةِ ، والتفسير ِ العلميِّ للقرءان ِ وفقَ مظاهر ِ الطبيعةِ ومكتسباتِ العلم ِ الماديِّ ، وأمّا التفسيرُ الأثريُّ والمنقولُ عن الصحابةِ والتابعينَ وأتباعهم ، فهذا قد تخطّاهُ الزمنُ وعفى عليهِ الدهرُ ، ويجبُ الإبقاءُ عليهِ كتراثٍ تُرجى بركتهُ فقط ولا يثبتُ نفعهُ أو حكمهُ ، وتفسيرُ النّصوص ِ خاضعٌ لدلالةِ الزمان ِ والمكان ِ – كما يزعمونَ – .

والمدرسة ُ العقلانيّة ُ المُعاصرة ُ إنّما نشأتْ بعدَ أن قامَ مجموعة ٌ من المسلمينَ بالسفر ِ إلى أوروبا ، فانبهروا بما لديهم من حضارةٍ وإنجازاتٍ وتقدّم ٍ ، وطالعوا أسفارهم ودواوينهم ، فعلموا أنَّ بداية َ تطورّهم كانتْ بعدَ تحرّرهم من سلطةِ الكنيسةِ ، وتخلّيهم عن الماضي ، وتجديدهم وسيرهم في ركبِ الحداثةِ ، والتخلّي عن جميع ِ الموروثاتِ الاجتماعيّةِ والدينيّةِ ، وحصر ِ الدين ِ في الرّوحانيّاتِ ، فعادَ هؤلاءِ إذ عادوا وهم محمّلونَ متشبّعونَ بتلكَ الرؤى ، وصُدموا من الواقع ِ الذي رجعوا إليهِ ، فحاولوا بثَّ أفكارهِم الجديدةِ بعدَ أن لطّفوها وهذّبوها ، وانطلى أمرهم على النّاس ِ حيناً ودهراً ، وصدّقوا ما أبدوهُ من حال ٍ ، حتّى أسقطَ اللهُ عن حِجابَ الستر ِ ، ورأى النّاسُ منهم ما رأوا ، وإذا هؤلاءِ قومٌ جنّدهم المستشرقونَ في أيدهم لتنفيذِ مآربهم ، وكتبوا لهم كُتباً قامَ أولئكَ بوضع ِ أسمائهم العربيّةِ عليها ، وهي في حقيقتِها للمستشرقينَ ، كما في كتابِ ” أصول الحكم ِ ” و” في الشعر الجاهليِّ ” لعلي عبد الرازق ِ وطه حُسين على التوالي ، و تبيّنَ للنّاس ِ أن حقيقة َ دعوتِهم إنّما هي علمانيّة ٌ صريحة ٌ ونزعٌ للدين ِ من الحياةِ ، وحصرهِ في حدودٍ ضيّقةٍ لا تتعدى أماكنَ العبادةِ ، ولكنّهم حاكوا تلكَ المؤامرة َ بثوبٍ دينيٍّ وبحُجج ٍ ظاهرُها شرعيٌّ ومنطقيٌّ ، وانبرى لهم فقهاءُ ذلك الزمان ِ ، وكشفَ العلماءُ خباياهم وفنّدوا آراءهم .

والدكتورُ خالص أوذيَ كثيراً في سوريّا ، بعدَ أن كانَ أحدَ من سُجنَ هناكَ لانتماءهِ لبعض ِ الجماعاتِ ، ولكنّهُ لم يصبرْ على مضض ِ السجن ِ وشظفِ الحياةِ ، فخرجَ إلى الخارج ِ ودرسَ وتعلّمَ ، وعادَ وقد تطرّفَ ذاتَ الشمال ِ ، فوجّهَ سهامَ دعوتهِ ونقدهِ لرّفاق ِ الأمس ِ ، بعد أن وجدَ مسَّ القرص ِ من دعوتهم ، وهم غيروا ملومينَ في ذلكَ ولم يكنْ هم من صنعوا بهِ ذلكَ أو غرّروا بهِ ، ولكنّهُ ضعفُ الحيلةِ ، وقلّة ُ الصبر ِ ، وبردُ العيش ِ في بلادِ الغربِ ، ولذّة ُ الحياةِ الدّنيا ، والتي آثرها الدكتورُ على لذّةِ الإيمان ِ ، فقاءَ بالهجر ِ والإثم ِ ، ورمى الدينَ وتعاليمهُ بالدواهي ، ووجّهَ راياتِ الحربِ على الثوابتِ الشرعيّةِ ، فكانتْ كتاباتهُ سمّاً زُعافاً ، حتّى وإن حاولَ أن يحلّيها لحُلل ٍ موشّاةٍ من الألفاظِ العلميّةِ المُعاصرةِ .

واليومَ صارَ الدكتور خالص أحدُ الذين يستشرفُ العلمانيّونَ لكتبهم ، ويفرحونَ بها ، لأنّها تقرّبُ لهم ما رأوهُ بعيداً ، وتُدينهم من عقول ِ العامّةِ بعد أن حيلَ بينهم ، ولعلَّ هذا الرابط َ يوضّحُ شيئاً من هذه الحقيقةِ المرّةِ :

مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي

ولعلّي أكرّرُ دعوة ٌ أطلقتُها قبلَ فترةٍ :

الإسلامُ – يا سادة ُ – ليسَ ديناً جامداً إذا فقدَ أسبابَ قوّتهِ المادّيةِ جلسَ في الأحراش ِ والأوديةِ وانطوى على ذاتهِ ، حتّى تعودَ إليهِ هيبتهُ ويستعيدَ بأسهُ ونشاطهُ وافراً غيرَ منقوص ٍ ، كلاّ ، بل هو دينٌ صالحٌ لكلِّ زمان ٍ ومكان ٍ ، وإن فقدَ في وقتٍ ما بعضَ أسبابِ التمكين ِ وعوامل ِ النصر ِ ، فسوفَ تمدّهُ عواملُ أخرى ، وجميعُ شرائع ِ اللهِ يُراوحُ فيها العبدُ المُسلمُ ويتنقّلُ بينها ، وإذا حيلَ بينهُ وبينَ شريعةٍ مالَ إلى أخرى ، فالدينُ متينٌ مُحكمٌ لا يسقطُ أو يضعفُ بعدم ِ القدرةِ على بعض ِ شرائعهِ ، ومن ظنَّ من المُسلمينَ – جهلاً منهُ – أنَّ الإسلامَ إمّا أن يُطبقَ كاملاً أو لا يُطبقُ ، فقد غلا غلواً عظيماً وغفلَ عن حقائق ِ التأريخ ِ الثابتةِ وتعامل ِ العلماءِ مع واقعهم على مرِّ العصور ِ .

يجبُ علينا – كذلكَ – أن نأخذَ بمعاقدِ العزِّ والتقدّم ِ وأسبابِ التمكين ِ والرّقيِّ ، ممّا اشتملتْ عليهِ الحضارة ُ المُعاصرة ُ ، ممّا لا يُخالفُ الديانة َ والأخلاقَ ، وأن نخلطَ ذلكَ كُلّهُ بأصولِنا وثوابتِنا الشرعيّةِ على وجهِ يتمازجان ِ فيهِ ويُصبحان ِ شيئاً واحداً ولُحمة ً مُتصلة ً ، وأن لا نختلقَ صِراعاً مُفتعلاً بينَ الحاضر ِ والماضي فنجعلَ هذا في وادٍ وذاك في وادٍ آخر ٍ ، ونتخلّفُ بذلكَ عن ركبِ الأمم ِ ويلحقُ فئامٌ من النّاس ِ منّا بالغربِ والشرق ِ حيارى طلباً لعزٍّ مظنون ٍ بعد افتعال ِ صراع ٍ موهوم ٍ بينَ الإسلام ِ والحضارةِ المُعاصرةِ .

أختمُ وأقولُ لمشايخنا الكِرام ِ : قوموا بما كانَ يقومُ بهُ ابنُ تيمية َ وابنُ الوزير ِ والصنعانيُّ ومحمدُ بنُ عبدالوهّابِ والشوكانيُّ وصدّيق حسن خان والرافعيُّ ومُصطفى صبري و محمّد رشيد رضا وعبدُالعزيز ِ بنُ باز ٍ – رحمة ُ اللهِ عليهم جميعاً – ، قبلَ أن يأتيَ من بيننا من يقومُ بدور ِ مارتن لوثر وكالفين وجان جاك روسو وفولتيير وجمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده وقاسم أمين وأحمد لُطفي السيّد وطه حُسين ، فالأمرُ إليكم وهو بين يديكم ، رفعَ اللهُ قدركم وأعلى بكم دينهُ ونصركم على أهل ِ الغلوِّ من أصحابِ اليمين واليسار، من أربابِ فكر ِ التفجير ِ والتكفير ِ أو أصحابِ فكر ِ التغريبِ والعقلنةِ . دمتم بخير.
نقلًا عن منتديات الساحة العربية، التي تم إغلاقها في وقت مبكر مطلع الألفية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى