عام

الترجمة والغطس إلى قاع البحر – بيرسا كوموتسي

بات من المتفق عليه أن الترجمة، وبالأخصِ الترجمة الأدبية، هي عملية إبداعية لا تقِلُ إبداعاً عن العمل الأصلي، وهي أيضاً حوار واندماج بين المُترجِم والمؤلِّف. فالمترجِم عليه أن يتوغل بحذر إلى العالم الداخلي للمؤلِّف، في محاولة منه – أي المترجِم – أن يعيش العمل قبل أن يترجمه، كما عاشه المؤلِّف؛ عليه أن يفهم أفكاره ونواياه بأعمق ما يستطيع.

على المترجم أيضاً أن يفهم الخلفية الثقافية والتاريخية والفلسفية للكاتب قبل أن يقوم بالترجمة. على سبيل المثال محاولة فهم المترجِم سبب أو خلفية استخدام الكاتب لمجموعة مُعينة من الكلمات والتعابير، أو أسلوبه في الوصف وما إلى ذلك. على المترجم أن يُعيد اكتشاف المؤلف من خلال ترجمته. فالترجمة هي كالغطس في قاع البحر بغرض البحث عن الكنوز، والبحر هنا هو بحر المؤلف.

بطريقة أُخرى يُمكِنُنا القول إن المترجِم يُعيد كتابة العمل الأدبي، في كثير من الأحيان، عند نقله من لُغته الأصلية إلى لغة المُترجِم. وهذا معناه أن العلاقة ليست مجرد علاقة ترجمة، ولكنها علاقة أعمق وأكبر من ذلك، ومن الممكن القول إنها عملية تبادل أدوار وهُوية بين الكاتب والمترجِم.

الأمر بالنسبة لي مُختلف بعض الشيء، فأنا كاتبة ومترجمة في نفس الوقت، لهذا أشعر وكأنني أُمثلُ وجهي عملةٍ واحدة. فأنا محظوظة مرّتين: المرّة الأولى لأني قد قمت بترجمة العديد من الأعمال الأدبية لكثير من الكُتّاب العِظام، والمرّة الثانية لأن أعمالي قد تُرجِمت أيضاً.

تحدثت في مناسبة سابقة عن العلاقة بين المترجِم والكاتب مُشبِهةً إياها كعلاقة بين شخصين لديهما هدف مشترك واحد. كلاهما يحاول الدفاع والترويج لِلُغته وثقافته وتعزيزها على أفضل وجه ممكن. أود أيضاً أن أوضح أن المترجِم هو الوسيط الأهم ما بين أي كاتب وجمهور بلد آخر، وهذا معناه أن هناك الكثير من الأعمال التي ستظلّ مجهولة للشعوب الأُخرى، إذا لم يقُم أحد بترجمتها.

كان مارتن هايدغر يتعجب من كيفية حوار كاتب مع كاتب آخر، ومن إمكانية فهمه لمجمل أعماله، وأيضاً من كون هذه الأعمال هي التي تقوده. بنفس الأسلوب تكون العلاقة بين المترجِم والكاتب. فالترجمة هي أيضاً حوار، تقارب روحي بين المترجِم والمؤلّف. وهذه العلاقة الروحية تتطوّر وتقوى يوماً بعد يوم، لا سيما إذا كان المترجِم مهتماً لسنوات عديدة بأعمال المؤلف ومعايشاً لها.

الترجمة عملية اكتشاف أيضاً وإعادة خلق للعمل الذي يُشْغَف به المترجِم. ودائماً ما تتطلّب شحذاً للأحاسيس ووعياً من المترجِم وأيضاً التغلّب على هويته الثقافية الخاصة، حتى يستطيع أن يتكيّف، ولو بشكل مؤقت، مع ثقافة المؤلِّف.

كما أنّ على المترجم أن يتحرّر من كينونته الشخصية حتى يستطيع أن يتغلغل في العالم الداخلي للمؤلف، في أفكاره وفي وجدانه. الترجمة إذن بحثٌ مستمر يتطلّب الكثير من التدريب، والمطالعة، وأن تتوفر لدى المترجِم حالة مزاجية جيدة، ورغبة وحب للعمل الذي يترجمه، وتوقعات مستمرة للنتائج.

إذا لم يكن هناك حماس، وإعجاب وحب فإن النتيجة النهائية للترجمة لن تكون جيّدة. كما أنه إذا لم يشعر المترجِم برضى وبروح معنوية مرتفعة فهذا معناه أنه لم يقم بعمله بصورة جيدة، وأن هناك أموراً في عمله بقيت ناقصة.


بطاقة

كاتبة ومترجِمة يونانية، وُلدت في القاهرة وعاشت في مصر وأكملت فيها دراستها الجامعية، قبل أن تنتقل إلى اليونان. لكن مصر واصلت الحضور كمكان في جميع أعمالها الروائية السبعة. ترجمت إلى اللغة اليونانية قرابة أربعين عملاً من اللغة العربية، من بينها 18 روايةً لنجيب محفوظ، وقد اقترن اسمها باسمه. وآخر ما صدر لها ترجمة لروايتي “اللجنة” لصُنع الله إبراهيم و”دعاء الكروان” لطه حسين.

المصدر : https://www.alaraby.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B7%D8%B3-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%82%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%B1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى