الفراشة
“الفراشة”.. عقاب قاس لجريمة لم ترتكب
فيلم “الفراشة” شهادة لا تموت ضد دولة ادعت أنها أول من مهد لحقوق الإنسان.
لن تنجحوا في تحطيمي.. ها أنا حر طليق
لم يكن الهدف من عقوبة السجن إعادة التأهيل، أو حجز المجرم خلف القضبان حماية للمجتمع، كل التفاصيل تشير إلى أن الهدف هو تحطيم المحكومين، وتجريدهم من إنسانيتهم. بدءا باللحظة التي يساقون فيها مكبلين بالسلاسل ضمن رتل خارج أبواب المحكمة، مرورا بحارات باريس الضيقة، يحيط بهم رجال الشرطة، وصفوف من الناس احتشدت أمام المنازل والمحال التجارية، يسعى كل منهم لتصيد فرصة يبصق فيها عليهم تعبيرا عن احتقاره لهم. الشعور بالإذلال يتضاعف عندما يكون المحكوم بريئا، وهذا هو حال البطل، بابيون، الذي أدى دوره، ستيف ماكوين، في فيلم الفراشة بشكل عميق ومؤثر. فيلم الفراشة ذهب خطوة أبعد من مجرد طرح سؤال سبق أن طرحته رواية “الجريمة والعقاب”، الفيلم قدم لنا العقاب، أما الجريمة فهي خطأ قضائي. وبذلك تحول الفيلم إلى محاكمة مجتمع بأكمله، مجتمع اختار الإذلال وسيلة للعقاب. الزمان لن يعود إلى الوراء، والفرنسيون لن تتاح لهم الفرصة لمسح الحدث من سجلاتهم، العار الذي أرادوه أن يلحق بالسجناء، لحق بفرنسا، ليصبح الفيلم شهادة لا تموت ضد دولة ادعت أنها أول من مهد لحقوق الإنسان.
عندما ظن الفرنسيون أن العالم نسي وصمة العار التي أحدثها فيلم “الفراشة”، وطالت فترة من تاريخهم الحديث، تحركت هوليوود ثانية، تنعش الذاكرة، وتحيي الإحساس بالذنب.
في السادس والعشرين من أكتوبر 1931، يساق “بابيون” إلى المحكمة، في قصر العدل بباريس، لم تستغرق الجلسة سوى بضعة دقائق، أصدر القضاة بعدها حكما أدانوا به المتهم بجريمة قتل من الدرجة الأولى.. لترفع الجلسة ويلفظ المجتمع الفرنسي شابا في الخامسة والعشرين من عمره، إلى جزر بعيدة. لتبدأ رحلة العذاب.
القميص الحريري، حلّ مكانه قميص واسع مصنوع من كتان خشن، والبدلة الجميلة، استبدلت بسترة من الصوف، واختفى الحذاء ليحل مكانه قبقاب خشبي.
من حق المجتمع أن يدافع عن نفسه، لكن من العار أن يلجأ مجتمع يدعي التحضر، مثل فرنسا، إلى عقوبة يُمحى فيها السجين من خارطة المجتمع، ويعاقب بالصمت المطبق، داخل زنزانة ضيقة تنفذ إليها خيوط واهنة من الضوء، من شباك مغلق مهترئ على ارتفاع أربعة أمتار، الأصوات الوحيدة التي تصل إلى الزنزانة هي صرخات هستيرية لسجناء أفقدهم الشعور بالوحدة قواهم العقلية.
رغم أن الفيلم، الذي أخرجه فرانكلين شافنر، وقام بدور البطولة فيه ستيف ماكوين وداستن هوفمان أنجز في العام 1973، إلا أنه ما زال حيا في الأذهان، بل صدرت نسخة جديدة منه، أعدها للسينما وأخرجها الدانماركي مايل نوير، اعتمادا على نص الرواية الأصلي، مستعينا بكاتب السيناريو، ارون غوريكوفسكي.
تنتمي الرواية، التي نشرت تحت عنوان الفراشة، إلى أدب السجون، وهي سيرة ذاتية لسجين فرنسي هو هنري شاريير، مولود في 16 نوفمبر 1906 بمنطقة أرديش الفرنسية، وتوفي في 29 يونيو 1973 بإسبانيا.
وثق شاريير تجربته مع السجون الفرنسية، في الرواية التي نشرت لأول مرة سنة 1969، وبيع منها إلى اليوم 7 ملايين نسخة. ويقال إنها كانت السبب في إلغاء حكم الإعدام في فرنسا.
جسد الممثل تشارلي هوننام في النسخة الجديدة من الفيلم دور شاريير، الذي عُرف في الفيلم باسم الفراشة “بابيون”، ألقي القبض عليه وحكم بالسجن ظلما بجريمة قتل، وتم نفيه إلى جزيرة الشيطان “ديفل” في غويانا الفرنسية، في أميركا الجنوبية، لتبدأ مغامرته لاستعادة حريته.
يعقد بابيون اتفاقا مع المزوّر، لويس ديغا، الذي قام بأداء دوره الممثل الأميركي المصري الأصل، رامي مالك، وقد وافق ديغا على تمويل هروب بابيون مقابل تأمين الحماية له، لتنشأ بينهما علاقة صداقة متينة.
يقدم شاريير، في سيرته الذاتية قصة كفاحه طوال سنوات للتحرر من السجن، ليس فقط من الجدران والأقفال، بل من فكرة السجن ذاتها. السجن الذي نجح سجانيه في زرعه داخل عقله، وسيطر عليه ما تبقى من سنوات عمره وكان دافعه الأول لكسر الحصار النفسي الذي فرضه القضاء الفرنسي عليه.
قدم شاريير، من خلال رحلته الطويلة، صورة قاتمة عن فرنسا، دولة حقوق الإنسان التي لم تحترم حقوق مواطنيها، خلال فترة حساسة من التاريخ الحديث، هي الحرب العالمية الأولى.
وفي ملحمة إنسانية تمتلئ بالتفاصيل الحية، نتبع خطى هنري شاريير أو “بابيون” كما درج رفاقه السجناء على مناداته في سجن الميناء، في سعيه الدؤوب نحو الحرية.
الحكم كان ضربة قاصمة لم يصحُ منها إلا بعد ثلاثة عشر عاما، رمي خلالها في دهاليز سجن عرف بقسوته وانعدام الإنسانية لدى القائمين عليه، والذين يحرصون على تحويل حياة نزلائه إلى جحيم، حتى في ساعات النوم القليلة. تلك كانت المحطة الأولى الجديدة التي امتدت حتى لحظة رحيله إلى سجن غويان الشهير.
هناك بدأ في رسم خطط للهروب، كل ما يشغل فكره هو كيف يرجع إلى باريس لينتقم من القاضي والمحلفين الذين رموا به في حفرة الموت البطيء هذه، مستنبطا في خياله أساليب للتنكيل بهم.
مع مرور الوقت لم تنجح عقوبة السجن في كسر روح بابيون التواقة للحرية، إلا أنها نجحت في تغيير أفكاره، لينسى الانتقام.. كل ما يهمه الآن هو الحرية، والنجاة من جحيم الإنسان المتحضر. بالنسبة له فإن حياة أكثر إنسانية، حتى وإن كانت بدائية، أفضل من مظاهر حضارية باردة تفتقد دفء العلاقات الإنسانية.
رغم الحراسة المشددة ورغم قسوة السجانين، تحولت الحياة داخل السجن إلى فسيفساء من العلاقات صنعت مجتمعا بأكمله. مجتمع منفيين، منهم من حكم لجرائم خطيرة ارتكبها، وآخرون تلقوا أحكاما لمجرد السرقة، وأبرياء، مثل بابيون، يدفعون سنين حياتهم بسبب أخطاء القضاء الجائر أحيانا.
داخل هذا الخليط الاجتماعي يلتقي بابيون الرفاق الذين سيشاركونه مغامرة الهروب من السجن في محاولته الأولى، التي اعتقد أنها الأخيرة. حدث ذلك بعد سنة ونيف من وصولهم مستعمرة “سان دورا”.
في عرض البحر، وفي مركب متهالك مهدد بالغرق، خاض الرفاق الثلاثة رحلة خطرة نحو الحرية، التي ظنوا أنها قاب قوسين أو أدني، لكن الرحلة تنتهي بهم في سجن جديد هو سجن “ريهوشا” في “كوراساو”.
رحلة الهروب تضعه وجها لوجه مع مشاهد مروعة، قرية كاملة يعاني سكانها الجذام، يقطنون أكواخا صغيرة من القش ابتنوها بأنفسهم، يربون الدجاج والبط، كل ما يمتلكونه هو عدد من المراكب المسروقة من القرية، تلاحقهم لعنة المرض وخوف الناس من انتقال العدوى، يحيط بهم حرس مسلح يمنع الدخول إلى القرية والخروج منها.
ورغم ملامحهم المقززة، شفاه وجفون متآكلة، هم أكثر إنسانية من حراس السجن، لم يترددوا في مد يد المساعدة للأصدقاء الهاربين. أمدوهم بالمال والتبغ والرز، وكمية من المحروقات، وجهزوا لهم زورقا أقلهم إلى “ترينيداد”.
في غمرة الفرح، ومن وسط زحام فتيات ضاحكات، وبينما هم مأخوذون بمرأى السيارات وعربات المترو وإعلانات السينما، ألقي القبض عليهم ثانية، ليساقوا إلى السجن من جديد.
مرارة التجربة لم تثنه عن تكرار المحاولة، يعاود الهرب. هذه المرة ينتهي به المطاف، بعد أن حرقت الشمس جلده، في جزيرة يقطنها هنود حمر يتسلحون بالسهام والسكاكين.
يتزوج من فتاة من السكان المحليين، جذبته إليها عيناها الرماديتان، كعيني زعيم القبيلة، وشعرها المجدول الذي يصل إلى أسفل الظهر. كانت ترفض المشي إلى جانبه، وتصر دائما على السير خلفه، غير مبالية باحتجاجه.
ويحدث أن يقابل ساحر القبيلة وطبيبها، الذي يطلب منه أن يرسم على صدره صورة لفراشة، مثل تلك المرسومة على صدره، ليتحول إلى صانع أوشام، يفتن به الجميع.
ويأتي يوم كان عليه أن يرحل، يغادر وهو يردد “وداعا أيها البدائيون، طريقتكم في العيش والدفاع عن أنفسكم علمتني أن أكون بدائيا، خير من أن أكون مجازا في الأدب”.
لم يرحل بإرادته، انتزع انتزاعا، ليلقى به وسط الحضارة، وسط السجن. قُبِض عليه بعد رحلة ألفين وخمسمئة كيلومتر، ليجد نفسه مرة أخرى في سرداب ضيق يفيض بالماء.
تتكرر محاولات الهروب ليصل في النهاية إلى فنزويلا، هناك حصل على بطاقة ممهورة وموقّعة بتوقيع وختم مدير الأحوال المدنية، يعيش بعدها حياة طبيعية ينسى معها فكرة الانتقام. عليه أن يتعلّم كيف يعيش حرّا.. حدث هذا في الرواية.
التنوع نجح بتقديم الشخصيات بعفوية وبساطة، فبينما يستسلم داستن هوفمان لقدره، يتحدى ستيف ماكوين الأقدار، ويركز على طلب الحرية
الفيلم ترك النهاية غامضة، فبينما روضت حياة السجن القاسية صديقه، لويس ديغا غارسة في قلبه الخوف والجبن، ليكتفي بالعيش في الجزيرة يربي الخنازير ويزرع الخضار، لا حارس ولا رقيب سوى بحر وشواطئ صخرية تحيط بالجزيرة من جوانبها، وتيارات بحرية تحول دون نجاح أي محاولة للهروب، لم يمنع كل ذلك بابيون من تكرار المحاولة، راقب بصبر حركة الأمواج والتيارات البحرية، وقام بتجارب عملية إلى أن استقر على اللحظة المناسبة، التي يمكن خلالها أن يترك نفسه للأمواج تحمله إلى عرض البحر بعيدا عن الشاطئ.
صنع لنفسه طوفا بدائيا شد نفسه إليه بوثاق قوي، وعندما أتت اللحظة هوى بجسده من فوق جرف عال إلى البحر، اختفى الجسد لفترة تحت سطح الماء، ثم طفا بعيدا عن الصخور، ليجدف بيده صارخا بأعلى صوته: لم تنجحوا في تحطيمي أيها الخنازير، ها أنا حر طليق.
يشيّعه صديقه ديغا بناظريه، إلى أن غاب بعيدا في الأفق، عندها يدور على عقبيه، ويعود إلى الكوخ يواجه وحدته في الجزيرة النائية المعزولة. وعلى عكس الرواية، النهاية المفتوحة التي اختارها الفيلم، تركت لنا الحرية لوضع الخاتمة التي تروق لنا.
التنوع منح الفيلم قيمة كبيرة، حيث نجح في تقديم الشخصيات بعفوية وبساطة، فبينما يستسلم داستن هوفمان لقدره، يتحدى ستيف ماكوين الأقدار، ويركز على طلب الحرية ليصبح هاجسه الوحيد، ويتحول نيلها إلى معركة مستمرة لا يشغله عنها شيء آخر.
نجح المخرج فرانكلين شافنير في أن يقدم لنا تحفة فنية رائعة تمثل قصة محبوكة بشكل منسق وجميل. أضفى عليها أداء كل من ستيف ماكوين وداستن هوفمان سحرا خاصا، ينسى معه المشاهد أنه يتابع أحداث فيلم. شخصيتان متناقضتان في كل شيء، وفي الوقت نفسه يكملان بعضهما البعض.
يستحق مخرج الفيلم ومنتجه جائزة خاصة على اختيار الممثل الذي أدى دور بابيون، لم يكن ستيف ماكوين ممثلا عاديا يوما، بل هو أيقونة السينما الأميركية، التي كثيرا ما نظر إليها الشباب، الطامحين للحصول على فرصة في عالم هوليوود، باعتبارها دليلا ومرجعا لهم.
حصل خلال حياته الفنية على الكثير من الألقاب، كان من بينها “ملك الثقة بالنفس” وكان يتمتع إضافة إلى الوسامة، التي تمتع بها نجوم عصره، بجاذبية وملامح رجولية مميزة. ويبقى اللقب الأكثر أهمية هو لقب “رجل على حافة الخطر”. وكان ماكوين يعشق الخطر إلى حد الإدمان، واستطاع أن ينقل لنا هذا الانطباع في كل مشهد من مشاهد الفيلم.
ظل ماكوين النجم الأعلى أجرا طوال فترة عمله بالسينما، حتى مع الأفلام التي لم تلق النجاح، واحتفظ بمكانته المتميزة إلى يوم وفاته في نوفمبر 1980. ليبقى حاضرا في الأفلام الوثائقية والتقارير التلفزيونية التي تناولت حياته الشخصية، ومن أهمها “ستيف ماكوين.. رجل على حافة الخطر” أنتج بعد وفاته بعشرين عاما، وهو للمخرج جين فيلدمان. اعتمد الفيلم، بشكل أساسي، على شهادات من عاصروا ماكوين ومن تعاملوا معه عن قرب، مع تدعيم هذه الشهادات بما يناسبها من الأرشيف الفوتوغرافي والسينمائي.
بالطبع هذا لا يقلل من قيمة دور البطل الثاني في الفيلم، ديغا، وقام بأدائه الممثل الرائع، داستن هوفمان. ويكفي التذكير بأن هوفمان نال أوسكار أفضل ممثل رئيسي مرتين، الأولى كانت عام 1979 عن دوره في فيلم “كريمر ضد كريمر”، والثانية عام 1988 عن دوره في “رجل المطر”، إضافة إلى خمسة ترشيحات أخرى.
لقد توفرت للفيلم كل عوامل البقاء، فهو إضافة إلى الممثلين المميزين اعتمد على سيناريو أبدع الكاتبان دالتون ترومبو ولورينزو سيمبلي جونيور في حبكته، وقدم في إنتاج ضخم تخدمه موسيقى تصويرية تشدك إلى التفاصيل في كل لحظة.
من سوء حظ الفرنسيين أن صرخة “ها أنا حر طليق.. لن تنجحوا في تحطيمي”، سيبقى صداها يرفرف فوق المحيط، مثلما رفرف جناحا الفراشة فوق صدر بابيون. وسيبقى مشهد المحكومين يسيرون عبر أزقة باريس باتجاه مصير غامض ينتظرهم في المنفى، وصمة عار لن تمحى.