الكاتب الذي غير قوانين البلد
تحكي رواية «الفراشة» لـ «هنري شاريير»، قصة إنسان حكم عليه بالأشغال المؤبدة في فرنسا، وهو بريء، ومن هناك سيُرحّل إلى الجزر الفرنسية في المحيط الأطلسي، حيث سيقضي كامل عقوبته. والرواية في العموم، تدين اعوجاج القانون وظلم الابرياء.. وهي تمثل قيمة جمالية وفنية فريدة، تحوك خيوط اتهام القانون نفسه.
كما إنها السبب في إلغاء عقوبة الإعدام في فرنسا. كما أنها فعليا، بمثابة خلاصة تجربة مؤلفها هنري شاريير الذي أدين هو نفسه بجريمة لم يرتكبها فسجن 13 عاماً. والرواية تحمل اسم الشخصية الرئيسية، الذي لا يفتأ يحاول الهرب من كل سجن وضع فيه، حتى بلغ مجموعها تسع محاولات، كلها باءت بالفشل.
1931
وفي ال26 من أكتوبر1931، يؤتى بالسجين إلى المحكمة في قصر العدل بباريس، فبعد لحظات سيكون هذا الإنسان متهماً بجريمة قتل. وفي الساعة ال11 ليلاً، انتهت لعبة الشطرنج، وقيل للمحامي الذي يدافع عنه، شاهدك مات.. أدانته المحكمة..
وهكذا لفظ المجتمع الفرنسي شاباً في ال25 من عمره، إلى الجزر البعيدة، وصاح الرئيس: يا حراس قودوا المحكوم، وبدأت رحلة العذاب. ويقول البطل: «قميصي الحريري الذي كنت ألبسه حلّ مكانه قميص واسع مصنوع من كتان خام قاس، واستبدلت بدلتي الجميلة بسترة وبنطال من الصوف الخشن، واختفى حذائي فوضعت قدميّ في قبقاب».
محطة جديدة
يُنقلون بعدها إلى المعسكر التأديبي في المركز، ومن هناك يرحلون إلى سجن الميناء، وهناك يصطف السجناء أمام شبك الزنزانة و11 كيساً بحرياً من القماش السميك المترع، وعلى كل كيس بطاقة تعرّف به، وكان الهروب الأوّل بواسطة زورق لا يصلح أن يكون قادراً على امتطاء علو الأمواج، ويقول عن هذا الهروب:
«إن هذا النشور والعودة من القبر والخروج من المقبرة حيث كنت مدفوناً أثارتني جميعاً وحرمتني من لذيذ النوم، وتمرّ أمامي بدقة وتفصيل المحكمة وسجن التوقيف، ثم مرضى الجذام والعاصفة، ويمكن القول: إنّ ما عشته منذ سنة يتزاحم للظهور في مجموعة ذكرياتي، وكأنه رقصة أشباح نورانية في مكان مظلم».
يمرّ بابيون في أثناء هروبه على مشاهد مروعة، ومن ذلك مثلاً: البرص الذين يعيشون في أكواخ صغيرة من القش ابتنوها بأنفسهم، يربون الدجاج والبط، وكلّهم قتلة خطرون، ويمتلكون عدداً من المراكب المسروقة من القرية، والحراس يطلقون النار على كل زورق يدخل الجزيرة ويخرج منها، ويعود ليقول:
«جلس أحدهم على يميني، وعندئذ رأيت أول وجه أبرص وكان فظيعاً، الأنف متآكل لحماً وعظماً وليس في الوجه سوى فتحة في الوسط، والشفة السفلى متآكلة، ليس له سوى أذن واحدة، ليس له أجفان إلا على العين اليسرى، والعين اليمن لا أجفان عليها».
وصف ودقائق
ويتابع مبينا أنه «هؤلاء البرص الذين قابلهم على الجزيرة، يجمعون لهم المال من بعضهم، ثم يعدّون البيض المشوي، ويحضرون لهم السلاحف وأوراق التبغ وكيساً من الرز وكيساً من فحم الخشب.. وموقد كاز وكمية من البنزين» ويضيف: «هؤلاء الناس في جزيرة الحمام، كرماء ومستقيمون جهزوا لنا الزورق لنمضي في الهروب إلى ترينيداد، وفيها يمشون على الأرصفة..
لا أحد ينظر إليهم، لا أحد يلتفت إليهم، تنفسوا بعمق، وهم يتذوقون طعم الحرية». ويردف: «نزلنا إلى الشارع الكبير، ولكن دون أن ندري وصلنا إلى المرفأ، ونحن مأخوذون بمرأى القطارات الكهربائية، والحمير التي تجر العربات والسيارات، وإعلانات السينما الوهاجة..
وكذلك عيون الزنجيات والهنديات الصغيرات وهن ينظرن إلينا متضاحكات». إنهن نساء جلودهن من كل لون، من الصينية إلى السوداء الإفريقية.. مروراً بذوات لون الشوكولا والشعر الأملس، إلى الهندية أو الجاوية التي انتقى أبوها زراعة الكاكاوا وقصب السكر، إلى الهجينة من الصيني والهندية ذات الصدفة الذهبية في الأنف.
الزواج بهندية
وعبر البحر يُرحلون إلى سجن جديد، ثم يعاود الهرب، وخلال ذلك يصوّر لنا الكاتب ما يرى معهم من مشاهد مؤثرة، سواء في البحر أو على اليابسة، حوادث تهتز لها النفوس، أو تقشعر لها الأبدان، شمس تلهب جسدهم، يأكلون بيض السلاحف ويخترقون الغابة إلى أن يراه الهنود. ويحكي هنا: «رأيت رجالاً ونساءً عراة، خطوت نحوهم ببطء، ثلاثة منهم كانوا يحملون الأقواس ويمسكون بالسهام بأيديهم».
هم فرحوا به وهو فرح بهم، ومنذ اللحظة التي ابتسم فيها الرئيس ولمس كتفه تبنته العشيرة، ويصف لنا كيف يعيشون، كيف هي بيوتهم، هم يصطادون اللؤلؤ، وهو يرسم للرئيس رجلاً مكبلاً وهو يهرب ويطارده المسلحون والبندقية مسددة نحوه.
يتزوج من هندية، ترتب له الكوخ وتصلح له الجدار بعجينة ترابية حمراء، كانت هذه الهندية متوسطة الطول، لها عينان رماديتان بلون الحديد كعيني الرئيس، وجانب وجهها صافٍ، شعرها المجدول طويل يصل إلى وركها. «كانت ترفض المشي إلى جانبي وكانت تمشي خلفي ولا حيلة لي في هذا». ثم يقابل الساحر، ويرتاح له، لأنه أراد أن يصنع له وشماً كالذي على جسده، فيصنع الوشم..
ويتحول إلى صانع الوشوم للقبيلة كلّها، ويرسم رجلاً هندياً وعلى رأسه ريش من كلّ الألوان، وكان الرئيس مفتوناً به وطلب منه أن لا يرسم وشماً لأحد قبل أن ينتهي من وشم صدره، يريد وشم النمر كالذي على صدره، بأنيابه الكبيرة. يتزوج من أخت سيدة تدعى لالي، اسمها زوارايما.. وهذه تحمل منه، وفي النهاية عليه الرحيل.
ويقول: «وداعاً كاجيرو، وداعاً أيها الهنود المستوحشون في شبه جزيرة كولومبية، أرضكم لا ينازعكم أحد عليها، طريقتكم في العيش والدفاع عن أنفسكم علمتني شيئاً، أن أكون هندياً متوحشاً خير من أن أكون مجازاً في الأدب والقضاء». رافقته لالي وزوارايما قرابة مئة متر، وبقيتا كأنما تهمان بتقبيله عندما رجعتا فجأة إلى البيت وهما تنتحبان دون أن تلتفتا نحوه.
تخلى عن الحرية التي نالها عند الهنود، وها هو يعود إلى الحضارة، إلى السجن. إذ قُبِض عليه من جديد، عقب أن قطع ألفين وخمسمئة كيلو متر، ذاك كي يُلقى في السرداب الشنيع الذي يفيض بالماء مرتين. ويقول هنا: «أما وهبت لي الحرية.. وامرأتين رائعتين والشمس والبحر، ومنزلاً كنت فيه سيداً بلا منازع؟
كل ذلك وطئته بقدمي، لأذهب إلى مجتمعات لا تريد أن تحنو عليّ، إلى تجمعات لا تفكر إلا في شيء واحد، هو إزالتي بأية وسيلة كانت». وتستمر دوامة الهروب إلى أن يصل إلى فنزويلا ويمارس حياته، فيعطونه بطاقة شخصية ممهورة وموقعة بتوقيع وخاتم مدير الأحوال المدنية، ووقتذاك يعدل عن فكرة الانتقام، عليه أن يتعلّم كيف يعيش حرّاً. هذه الرواية تحولت إلى فيلم سينمائي..
انها السبب في أن فرنسا ألغت حكم الإعدام، إنها ملحمة إنسانية تصرخ بالجمال والروعة والصدق، تحمل في طياتها كلّ ما هو خارج عن المألوف، إنها مجموعة مغامرات نقرؤها من دون توقف، وهذه المغامرات تحكي قصة رجل يطرق باب الحرية بكلّ ما أوتي من قوّة، لم يكن يرجو إلا بطاقة شخصية تجعله يسير بين الناس بأمان، يذهب إلى البحر، ويأتي إلى البيت، ينام ويستيقظ ويذهب إلى عمله، ويعود منه.. لا شيء يضايقه أو يمنع الحرية عنه.
كفاح وتآمر
الشخصيات في الرواية، كثيرة ومتنوعة، فيها الطيب الصديق..
وفيها العدو، وهذا التنوع منح الرواية قيمة أن تكون عملاً عظيماً يدرس الشخصيات الإنسانية بكل عفوية وبساطة، والشخصية الرئيسية فيها، يظل يدق بيديه على باب الحرية، إنها معركته وهو لا يريد غيرها..
إنها هاجسه الوحيد منذ وصوله إلى السجن إلى لحظة هروبه، إنها قصة إنسان مكافح لم يفعل شيئاً، إنما تآمر عليه الناس المجرمون الحقيقيون ليزجونه في السجن المؤبد، بعيداً عن مجتمعه.. وهو تخلّى عن كل شيء ليصل إليهم، وخلال ذلك يقدّم لنا عالماً غريباً ومدهشاً، مما رآه في عالم البحر وما به، وعالم السجون وما يوجد فيه، وعالم اليابسة الجديد تماماً علينا.
1973
فيلم من بطولة ستيف ماكوين وداستين هوفمان، وإخراج فرنكلين شافنر، وتم ترشيح ماكوين لنيل جائزة جولدن جلوب كأحسن ممثل عن دوره في هذا العمل.