يذكر تاريخ الأغنية السعودية مجموعة من الأغاني الوطنية الخالدة التي ارتقت لتكون جزءاً من وجدان الناس وذاكرتهم، وتجاوزت كونها أغاني وطنية لا تذكر إلا في المناسبات، إلى أغان وجدانية يذكرها الناس ويترنمون بها ويطربون لها في كل وقت وحين، وخير مثال يستدل به في ذلك أغنية “وطني الحبيب” للراحل طلال مداح التي استمرت لعقود ومازالت حاضرة بقوة في قلوب الناس، حتى أضحت عنواناً رئيساً لعلاقتهم بأرضهم وتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، منذ تسجيلها عام 1381 ه، وحتى اليوم الذي نرى فيه القنوات والإذاعات، بل وإعلانات الشركات التجارية المنشورة في يوتيوب، تبث الأغنية تأكيداً لمعانيها الوطنية الراسخة في أذهان السعوديين.
بدأت قصة هذه الأغنية قبل أكثر من خمسة عقود حين ذهب بها الراحل طلال مداح إلى أستوديوهات الإذاعة في جدة ليسجلها هناك بصحبة فرقة النجوم بقيادة الفنان الراحل محمد أمين يحيى. كان التسجيل متواضعاً وحسب الإمكانات الفنية المتاحة حينذاك لكنها كانت مؤثرة وحققت نجاحاً فورياً وقد اعتبرت أول أغنية وطنية في تاريخ المملكة لأن الإذاعة لم تكن تبث قبلها سوى الأناشيد والابتهالات، كما أن تسجيلها ارتبط بأسماء موسيقية شابة ستصبح فيما بعد من علامات الأغنية السعودية حيث كان من أعضاء فرقة “النجوم” الموسيقية الملحن سامي إحسان والملحن محمد شفيق -رحمهما الله- وعبدالله الماجد وعبده مزيد وسراج عمر وغيرهم.
أغنية حققت الخلود منذ ولادتها، بكلماتها الوطنية الصادقة المسجلة باسم الشاعر مصطفى بليلة، وبلحنها الجميل الذي أبدعه طلال مداح مؤكداً به ريادته الفنية مغنياً وملحناً وراسماً لهوية الأغنية السعودية في عصرها الذهبي. ورغم مرور سنوات على تسجيل الأغنية ونجاحها الواسع إلا أن الجدل حول اسم كاتب كلماتها كان كبيراً خاصة عندما أعلن الفنان حسن دردير أنه من كتب كلمات الأغنية وليس الشاعر مصطفى بليلة، حيث قال في لقاء سابق نشرته “الرياض”: “لقد كتبت الأغنية حينما كنت أعمل في الصناعية في الستينيات وعرضتها على صديق لي اسمه مصطفى بليلة وكان يدرس حينها الثانوية، وكانت القصيدة بعنوان “بلدي الحبيب فهل أحب سواه” فقال لي يا حبذا لو تبدأها ب”وطني الحبيب” فأكملتها على هذا الأساس، إلى أن طلب مني الأستاذ فايز عزاوي أن أقدم النشيد في مناسبة وطنية، وطلب من بدر كريّم وعبدالله الحسيّن وحمام وهو أديب مصري أن ينقحوا القصيدة لتصبح أغنية وطنية، ومن هنا فتحت ذهني وجعلت الأغنية “وطني الحبيب” على أساس أن يلحنها محمد أمين يحيى -رحمه الله– قائد فرقة النجوم وأنا أغنيها، وحين سمعها طلال مداح استأذنني ليغنيها وفعلاً غناها وهذا ما جعل أكثر من أديب يعيدون تنقيحها”.
لكن القصيدة بحسب تسجيلها الأصلي الذي أشرف عليه ملحنها طلال مداح حمل اسم مصطفى بليلة ككاتب لكلماتها، وهذا ما أكده الإعلامي الراحل عبدالرزاق بليلة الذي كان أيضاً ممن دار حولهم الجدل وارتبط اسمه بالقصيدة ككاتب لها، لكنه نفى ذلك وأكد أنها لمصطفى بليلة وليست له، مرسخاً بذلك مفهوم الحقوق الأدبية والمادية لمن كتبها، ومنصفاً للقصيدة الأصلية التي تجاوز نصها 25 بيتاً شعرياً وتم اختصارها في الأغنية إلى أقل من ذلك.
كل هذا الجدل حول اسم مؤلفها لا يلغي قيمة الأغنية ولا جدارتها التاريخية ولا تألقها الجمالي الذي صاغه طلال مداح في لون مهيب وغناءً عاطفي مثير، ليكون من أوائل الفنانين دخولاً إلى أستوديوهات الإذاعة وأولهم في إبداع الأعمال الوطنية الرسمية، قبل أن يعيد تسجيلها قبل وفاته بسنوات لتظهر بصورة جميلة حافظت على روح التسجيل الأصلي، تاركاً للسعوديين عملاً وجدانياً مؤثراً يرددونه في كل حين، قائلين:
روحي وما ملكت يداي فداه.. وطني الحبيب وهل أحب سواه
وطني الذي قد عشت تحت سمائه.. وهو الذي قد عشت فوق ثراه
منذ الطفولة قد عشقت ربوعه.. إني أحب سهوله ورباه
وطني الحبيب وأنت موئل عزة.. ومنار إشعاع أضاء سناه
في كل لمحة بارق أدعو له.. في ظل حام عطرت ذكراه
في موطني بزغت نجوم نبيه.. والمخلصون استشهدوا لحماه
في ظل أرضك قد ترعرع أحمد.. ومشى منيباً داعياً مولاه
يدعو إلى الدين الحنيف بهديه.. زال الظلام وعززت دعواه
في مكة بيت حرم الهدى وبطيبة.. بيت الرسول ونوره وهداه
وطني ينبوع العدالة والتقى.. نور الحياة وكلنا نهواه
إني لأهتف باسم مجده.. دائماً إني لأهتف دائماً ببقاه