انطباعات

سل المبدعين وصداه الذي يتردد أثناء أزمة كوفيد ١٩

Abbott Thayer gives his eldest daughter angel wings in a painting.

محاولات أحد الفنانين للتعامل مع السُلّ وصداها الذي يتردد أثناء أزمة كوفيد-19

كتابة: إليزابيث لي

ترجمة: قمر عبد الحكيم

مثلهم مثل أي شخص آخر، يواجه الفنانون تحديات جديدة بسبب الإجراءات الروتينية والأحوال المُستجدة التي بدأت مع بداية وباء كوفيد-19. وكان لزاماً على العديد منهم أن يتكيفوا مع ما يقومون به من أعمال، فضلاً عن كيفية ومكان عملهم، وأن يبتكروا السُبُل الإبداعية اللازمة لإنجاز المزيد من الأعمال –أثناء عزلتهم- في استوديوهات مؤقتة وذات إمدادات محدودة.

هناك أمر واحد مؤكد رغم ذلك: تظل الحاجة إلى التعبير الإبداعي والتأمل “ذو المغزى” في الهلاك أمر لا غنى عنه من أجل التصدي للعناوين اليومية التي تحمل الأمراض المُفْجِعة والمعاناة والموت.

كنتُ على مدى السنوات العديدة الماضية أبحث في تأثير المرض على فناني أواخر القرن التاسع عشر الأمريكيين، ولكن علم الطب  في ذلك الوقت كان يفتقر إلى التجهيزات التي تؤهله للتعامل مع المعدلات المتزايدة للأمراض المعدية، وقد ترك للفن مهمة المساعدة في سد بعض الاحياجات لفهم تلك الأمراض والتعامل معها.

واحد من ضمن الفنانين الذي ورد ذكرهم في كتابي القادم الذي يدور موضوعه حول الفن والمرض هو الرسام أبوت ثاير، والذي شهدت حياته وعمله تغيرا جذريا بعد أن أودى السُلّ بحياة زوجته. وقد لعب الفن دور الدواء في حياة هذا الفنان ذو القلب المكلوم.

مرض عاطفي

Suffering from tuberculosis, Robert Louis Stevenson sits in bed, propped up by pillows as he writes.

أصبح السل في أواخر القرن الثامن عشر مرضاً تشوبه العاطفة. وكان يُنظر إليه على أنه مرض من شأنه أن يرفع مستوى الوعي، ويعزز الرؤية الإبداعية والبراعة الفكرية. وقد أودى السل بحياة كلا من الشاعر جون كيتس وعازف البيانو فريدريك شوبان في سن صغير، مما عزز شهرتهما كفانين ألمَّ بهما البلاء.

ذكر واحد من أوائل كُتَّاب السيرة الذاتية لروبرت لويس ستيفنسون أن مرض السُلّ قد نَمّى موهبة ستيفنسون ككاتب. ونجد في إحدى منحوتات أوغسطس سانت غودنز أنه صور ستيفنسون أثناء إقامته في نيويورك ككاتب بوهيمي ذو شعر طويل وسيجار في يده. وبغض النظر عن كومة الوسائد التي يستند عليها فوق السرير فقد بدا متحفزا ولديه انتاج خصيب. كما ذكر أحد النقاد بأن المنحوتة قد أظهرت عدم لياقة ستيفنسون البدنية، ومع ذلك فقد بدا خلاباً، وكأن المرض قد زاد من جاذبيته.

إذا كانت آثار المرض مُبهمة، فكذلك كانت الطريقة التي انتشر بها.

The artist painted his three children outdoors forging ahead vigorously.

اعتقد الناس لمئات السنين أن السبب الرئيسي للمرض هو (الميازما miasma)، أو الهواء الفاسد. ولكن علم الطب قد أدرك في نهاية المطاف، أي في ثمانينيات القرن التاسع عشر، أن مصدر العدوى الحقيقي هو الكائنات الحية الدقيقة، وأن هاته الجراثيم يمكن أن تنتقل بهدوء تام من شخص إلى آخر. فعلى عكس الميازما، التي يمكن التعرف عليها عن طريق الرائحة، فقد انتقلت الجراثيم عبر المدن المزدحمة دون أن يتم اكتشافها. وعلى ذلك فقد انتشرت في شتى البقاع.

هواء نقي وحياة صحية

في الوقت الذي استسلمت فيه زوجة الرسام أبوت ثاير لهذا المرض عام 1891، كانت نظرية الجراثيم هاته مقبولة على نطاق واسع وقد أصبحت مألوفة بالنسبة للفنان، الذي كان والده طبيبا وخبيرا في الصحة العامة. وكان خوفه من أن يجيء الدور في المرة المُقبلة على أطفاله الثلاثة هو الدافع إلى السعي لإيجاد بيئة “صحية” له ولاطفاله. فجرى البحث عن مكان تلفه الطبيعة ومُشبع بالهواء النقي، حيث يمكن للأسرة أن تتناول وجبات مغذية، وأن تتجول خارجاً بكل حرية وأن تنعم بالمزيد من الراحة.

لم تكن عائلة ثاير العائلة الوحيدة التي تبحث عن بيئة علاجية. فقد كانت سبعينيات القرن التاسع عشر بمثابة بداية حركة المصحات العلاجية، حيث أراد الأفراد الذين أصيبوا بالسل، أو ظنوا أنهم سوف يصابون به، أن يجهزوا أنفسهم –تحت إشراف طبي- لمصارعة المرض في منازل يلفها الهواء الطلق من كل جانب، والتي غالبا ما تكون بالقرب من الجبال أو الصحراء أو البحر. 

أصبح نمط الحياة الذي عاشه ثاير وأطفاله نموذجاً يُحتذى به في دوبلين، نيوهامشير. وقد منح المنزل الواقع عند قاعدة جبل مونادنوك الأسرة فرصاً وفيرة للانغماس في الهواء الجبلي النقي، والذي كان يُعْتَقَد أنه “أنقى” أنواع الهواء آنذاك.

يمضي ثاير صبيحة أيامه العادية في الرسم، ثم تسلق جبل مونادنوك أو التمشي لمسافات طويلة برفقة أسرته. وقد عززت هذه الأنشطة التي يتم مزاولتها في الهواء الطلق فكرة مفادها أن التنفس العميق يُنقي الرئتين من السموم العالقة بها.

كان أطفال ثاير أيضاً ينامون داخل سقيفة ثلاثية الجوانب في الهواء الطلق، مما أتاح لهم فرصة استنشاق الهواء النقي طيلة الليل. ووفقاً لمستوى التفكير آنذاك، فقد ابتكر ثاير أيضاً “قناع التنفس”، وهو قناع لا يختلف كثيراً عن الأقنعة الواقية اليوم، يتم ارتداؤه حول الأنف والفم ليحول دون تجمد “الزفير الضار” على الفراش ليلاً. وفي محاولة أخرى لتجنب الجراثيم، ارتدى ثاير نوعا خاصا من الملابس الداخلية الصوفية التي اشتهرت بصفاتها الوقائية ضد المرض.

ملائكة الحيوية

خضع فن ثاير لتحول كبير أثناء سعيه للحفاظ على صحة عائلته.

في وقت مبكر من حياته المهنية، كان ثاير غالباً ما يرسم المناظر الطبيعية والبورتريهات. ولكن بعدما ألَّم المرض بزوجته كيت، حول ثاير أطفاله -ماري وجيرالد وجلاديس- إلى موضوعات رئيسية في أعماله. تأتي لوحة “الملاك” في طليعة هاته الأعمال، وقد صور فيها ابنته الكبرى ماري وكأنها مخلوق سماوي، حيث ينقل لنا شحوبها -الذي يوضحه رداءها الأبيض والأجنحة- حالة الهشاشة التي خلفتها آثار مرض السل. وقد جمعت اللوحة تناقض بين الابنة المعافاة والأم السقيمة، وتحطم الوعد بشباب صحي، والمخاوف المتعلقة بإنهيار الجسد.

صور ثاير في لوحته “عذراء”  (1892-1893) أطفاله الثلاثة واقفين في الخارج. وتُذكرنا السُحب، التي تخرج من كتفي ماري وكأنها أجنحة، بتصوير ثاير لها في لوحة “الملاك”، كما تُشير إلى  دور ماري كبديل عن زوجته المتوفاة. 

بالنظر إلى الطريقة التي أثر بها مرض كيت على الأسرة، نجد أن الأسرة قد صبت جام تركيزها على الطبيعة والصحة. فيبديو من الأهمية أيضاً أن يسير الأطفال، الذين ظهروا في اللوحة حفاة الأقدام تلفحهم الرياح، بحيوية وعزم. وقد أشادت ملابسهم الكلاسيكية باليونانيين القدامى، الذين اشتهروا في زمن ثاير بالتزامهم باللياقة البدنية والمعيشة في الهواء الطلق.

لقد جسد أطفال ثاير، أثناء انغماسهم في بيئة علاجية، نمط الحياة التي اعتنقها والدهم. وعلى ذلك فقد أصبحوا نماذج يحتذى بها في العيش الصحي في الهواء الطلق في حقبة الأمراض المعدية.

قد تبدو الصورة عتيقة، ولكن صداها يتردد اليوم بكثرة.

يستهدف كل من السلّ وكوفيد – 19 الرئتين. ومن بين أعراض هذين المرضين ضيق التنفس والسعال. لم تكن هناك طريقة فعالة لعلاج السُلّ حتى ظهر عقار الستربتوميسين في أربعينيات القرن العشرين، لذا فإن الوقاية والصمود خلال فترة ثاير -كما هو الحال مع كوفيد-19- غالبًا ما تنطوي على عاداتي النظافة الجيدة وأسلوب الحياة الصحي. ومازلنا، مثل ماري وجيرالد وجلاديس، نتنزه في الطبيعة في محاولة منا للهروب من القيود النفسية والجسدية للحجر الصحي. ويظل –حتى يومنا هذا- ملء رئتينا بالهواء النقي بمثابة علامة مطمئنة على الصحة الجيدة، تماماً كما حدث منذ أكثر من قرن من الزمان.

———————————————————————————————————————————

إليزابيث لي: أستاذ مساعد في التاريخ الفني، كلية ديكنسون.

المصدر

https://theconversation.com/one-19th-century-artists-effort-to-grapple-with-tuberculosis-resonates-during-covid-19-142343

عناوين اللوحات بحسب ترتيبها في المقال:-

  1. Abbott Thayer’s “Angel” of 1887
  2. The relief of Robert Louis Stevenson sculpted by Augustus Saint-Gaudens.
  3. Abbott Thayer’s ”A Virgin” of 1892-1893

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى