قصة حياتي
النشأة والبيئة
قصة حياتي[1]
تأليف: أوسامو دازاي
ترجمة: ميسرة عفيفي
[1] نُشرت هذه المقالة لأول مرة بعنوان (حقول الأدب) في مجلة (شينتشو للروايات) التي صدرت بتاريخ 1/11/1947م أي قبل انتحار دازاي بسبعة أشهر تقريباً. ثم نُشرت ضمن أعمال أوسامو دازاي الكاملة الصادرة عام 1977 بهذا العنوان وترجمته الحرفية: قصة نصف حياتي / المترجم
لقد وُلدتُ في عائلة ريفية غنية. وتربيت مرفهاً لا ينقصني شيء كأصغر الأبناء يكبرني عدد كبير من الأخوة والأخوات. وبسبب ذلك أصبحتُ إنساناً خجولاً جداً وجاهلاً تماماً بأعراف المجتمع. وربما يظن الناس أنني أفتخر بخجلي هذا.
باتت شخصيتي في منتهى الضعف لدرجة أنني لا أستطيع التحدث مع الناس حديثاً مُرْضياً، وبالتالي عشت حياتي منذ طفولتي وحتى الآن مدركاً أن قدرتي الذاتية على المعيشة تقترب من الصفر. ولذلك من الأفضل أن أصف نفسي بأنني متشائم، ولا أشعر بأي دافع للحياة. مجرد أنني فقط أريد الهروب بأسرع وقت من هذه الحياة. كنتُ منذ طفولتي لا أفكر إلا في أنني أريد توديع هذا العالم.
ومن المؤكد أن شخصيتي هذه كانت دافعاً لي لكي أطمح أن أكون أديباً. وأشعر أن البيئة التي تربيتُ فيها وعائلتي وكذلك مفهوم مسقط الرأس، كل هذه الأمور كانت متجذرة داخلي ولا يمكن اقتلاعها مطلقاً.
ربما أبدو في أعمالي أنني أتباهى بعائلتي وأصلي، ولكن الواقع على العكس من ذلك، إذ أنني حكيت فقط نصف حقائق عائلتي بسبب الخجل والتحفظ.
أمر واحد يغني عن ألف، دائماً ما أكون مقيداً بمشاعر رعب أنني محط انتقاد الآخرين وأنهم ينظرون لي بعداء. ومن أجل ذلك كنتُ أتعمد أن أحيا في الحضيض، أو أحاول بقدر المستطاع أن أتعايش مع الأوساخ والقاذورات مهما كانت درجتها، ولكن كان من المحال أن أخنق نفسي بالأحبال.
ويبدو هذا هو السبب الأول الذي يجعل الناس تراني مغروراً. ولكن إن سُئلت عن رأيي، فإن شخصيتي الضعيفة هي السبب، ولذا لا أدرى كم عدد المرات التي فكرت فيها في أن أخلع كل ما أرتديه وأعطيه للناس.
وحالة الحب مثلا، فحتى أنا يحدث أن تُبدى امرأة حباً ناحيتي، ولكنني كنتُ أكره أن يحبني أحد، لأنني كنتُ أفكر دائماً أن من يحبني فهو يحبني فقط لأنني ابن عائلة غنية، ولذلك توقفت على الحب من نفسي مرات عديدة.
وحالياً يشغل أخي الأكبر منصب محافظ محافظة أوموري المنتخب، ولكنني على العكس عشت حياتي حتى الآن أبذل جهداً في التمثيل لكي أبدو وضيعاً وأحمقاً حتى لا يعتقد أحد أنني أستغل عائلتي للتقرب من النساء إن قلت ذلك لامرأة. وخرج هذا الأمر عن سيطرتي ولا أستطيع حتى الآن اكتشاف حلاً له بأي وسيلة.
الحياة الأدبية؟
في الخامسة والعشرين من عمري وكنتُ وقتها طالباً فاشلاً في الدراسة بقسم الأدب الفرنسي بجامعة طوكيو، طلبتْ مني مجلة “الأدب” الصادرة عن دار كايزوشا للنشر كتابة قصة قصيرة، فجمّعتُ ما لدي من أعمال قصيرة باسم “عكس الاتجاه” وأرسلتها لهم. وبعد شهرين أو ثلاثة أشهر تقريباً ظهر اسمي في إعلانات الجرائد مجاوراً لأدباء قدامى، ورُشحت تلك القصة بعد ذلك لجائزة أكوتاغاوا في دورتها الأولى.
وفي نفس وقت ظهور قصة “عكس الاتجاه” صدرت لي قصة “زهور صناعية” في مجلة ذاتية باسم “رومانسية اليابان” لعدد من الأدباء. ونالت استحساناً من الأستاذ هاروو ساتو، مما ساعدني بعدها في نشر قصصي في المجلات الأدبية واحدة بعد أخرى.
وهكذا بات لديّ بصيص أمل في أنني أستطيع العيش في الحياة الأدبية، أي أستطيع إقامة عيشي من خلال كتابة القصص. وكان ذلك في السنة العاشرة من عصر شوا تقريباً.
وعند إعادة التفكير، أشعر أنني لا أدرك دوافع واضحة ومحددة للاتجاه نحو الأدب، بل يمكن القول إن الأمر حدث تقريباً بدون وعي ووجدتني في غفلة من الزمن أمشي في حقول الأدب. وأعتقد أن الأقرب للحقيقة أنني اندهشتُ بشدة إذ وجدتني في منتصف حقول الأدب الذي لا يمكن الرجوع عنه، كان بالفعل كما يقول المثل: عندما انتبهتُ وجدت أمامي ألف ميل للذهاب، وخلفي ألف ميل للعودة.
من أحبهم من قدامى الأدباء
يمكنني القول إن ماسوجي إيبوسيه هو الزميل الأكبر الوحيد الذي أرتبط معه في علاقة صداقة. ومن النقاد تيتسوتارو كاواكامي وكاتسوئتشيرو كاميه وهما من رفاق الشرب بسبب علاقتي بمجلة “عالم الأدب”. ومن الزملاء كبار السن الذين سيكون من سوء الأدب أن أصف علاقتي معهم بالصداقة الأستاذ ساتو والأستاذ يوشيو تويوشيما اللذين يسمحان لي بدخول منزليهما. ثم قويت علاقتي بالسيد إيبوسيه لدرجة أنه كان الواسطة بيني وبين زوجتي الحالية.
وبذكر السيد إيبوسيه فانطباعي عن أعماله المنشورة في كتابه “السَحَر وزهور البرقوق” في بداياته، أنها عبارة عن جواهر ثمينة متراصة بجوار بعضها البعض. بالإضافة أيضاً أنني منذ زمن بعيد أعُد السيد إيسوتا كامورا عظيماً جداً.
وأنا عادة أرتاب في الأعمال الأدبية التي يبجلها الناس أو يثيرون حولها ضجة كبرى، وربما كانت تلك صفة من صفات الإنسان ضعيف الشخصية.
وبالنسبة لأدب عصر ميجي، أرى أن قصص دوپّو كونيكيدا القصيرة في منتهى الجودة. أمّا فيما يتعلق بالأدب الفرنسي، فإن تحدثنا عن القرن التاسع عشر يبدو أن الأغلبية لديهم فكرة بديهية أن من لا يُعجب بمن يطلق عليهم كبار الأدباء مثل بلزاك وفلوبير، ينقصه المؤهل لكي يكون أديباً، ولكنني قرأت أعمال كبار الأدباء هؤلاء والحقيقة أنني لم أحبها لتلك الدرجة. على العكس بشكل خاص أحب كثيراً قراءة أدباء مثل ألفريد دي موسيه وألفونس دوديه ومن شابههم. والأدب الروسي كذلك ثمة بديهية لدى الجميع أن من لا ينبهر بتولستوي ودوستويفسكي ليس مؤهلاً ليكون أديباً، وربما كان ذلك حقاً فعلاً، ولكن فيما يتعلق بي فأنا أميل تجاه تشيخوف أكثر، بل وأعتقد أن بوشكين أفضل أديب روسي على الإطلاق.
لست إنساناً غريب الأطوار
في الندوة الأدبية التي عقدت باسم “منبع الأحاديث” ونُشرت في عدد الشهر الماضي من مجلة “شينتشو للروايات” قيل عني إنني غريب الأطوار وإنني أخنق نفسي بالأحبال. وقيل أيضاً أن قصصي ورواياتي نادرة وغريبة فقط، وإنني مصاب بالاكتئاب. إن من يُشاع عنهم إنهم غريبو الأطوار أو إنهم مريبون، يكون أغلبهم على غير المتوقع ضعفاء الشخصية وجبناء يتنكرون بذلك من أجل حماية أنفسهم. وأعتقد أن سلوكهم هذا ناتج من عدم ثقتهم بأنفسهم تجاه حياتهم المعيشية.
وشخصياً لم يسبق لي أن اعتقدتُ أنني شخص غريب الأطوار أو شخص مريب مطلقاً، بل إنني رجل يحمل صفات في منتهى البديهية وأنا كذلك ملتزم جداً بالأخلاق التقليدية العتيقة. ومع ذلك، يبدو أن الكثيرين يعتقدون أنني لا أبالي بالأخلاق مطلقاً، ولكن الحقيقة أنني عكس ذلك تماماً.
ولكنني كما ذكرتُ من قبل، إنسان ضعيف الشخصية، وأعتقد أنني يجب على الأقل أن أعترف بذلك الضعف. وأيضاً أنا لا أستطيع الجدال مع الآخرين، ويمكن القول إن ذلك أيضاً بسبب ضعف شخصيتي، ولكنني أشعر أن ميلي إلى المسيحية له علاقة إلى حدٍ ما بذلك.
بالنسبة للمسيحية، فأنا حالياً أعيش في بيت متهالك حرفيّاً. حتى أنا أرغب في أن أعيش في بيت لائق مثل الآخرين. وكذلك يصعب عليّ أبنائي. ولكنني لا أستطيع العيش في بيت لائق مهما فعلت. ولم تكن تعاليم الوعي الپروليتاري أو الأيديولوجية الپروليتارية السبب، ولكن يبدو أنني أتمسّك بعناد غريب بكلمة المسيح التي تقول: “أحب جارك كما تحب نفسك” ولكنني بدأت مؤخراً التفكير بإمعان أنه من المستحيل جداً أن تحب الجار كما تحب نفسك. ألا ينطبق هذا على جميع البشر؟ أليست مثل هذه الأفكار هي التي تؤدي بالإنسان إلى الانتحار؟
أليس من المؤكد أنني أفسّر كلمة المسيح التي تقول “أحب جارك كما تحب نفسك” تفسيراً مختلفاً؟ أليس من المؤكد أن معناها مختلف؟ عند التفكير، أتذكر جزء “كما تحب نفسك”. كما هو متوقع يجب أن تحب نفسك. لقد انتبهتُ قليلاً أن كره الذات أو تعذيب الذات، مع حب الآخرين من الطبيعي أن يؤدي للانتحار، ولكن ذلك مجرد ذريعة فقط. وكما هو متوقع كانت مشاعري تجاه الناس في هذا المجتمع خجولة دائماً، وعشت حتى الآن وأنا أخوض تجربة واقعية في أنني يجب عليَّ أن أمشي وأنا أخفض من قامتي بمقدار بوصتين تقريباً. وأشعر أن ذلك أيضاً قاعدة من قواعد عالمي الأدبي.
وأشعر أيضاً شعوراً حقيقيّاً أن المذهب الاشتراكي على حق. وأن أخيراً أصبح المجتمع الآن اشتراكيّاً، ومع شعور بالسرور أن كاتاياما رئيس الوزراء قد بات قائداً لليابان، أشعر كذلك أنني يجب عليّ أن أعيش حياة شاقة وفقيرة مثلما كنتُ في الماضي، كلا بل أكثر مما كنتُ في الماضي. وعندما أفكر في تعاستي تلك، أعتقد أن السعادة لن تزورني حتى نهاية حياتي، ولكن ليس بمشاعر انفعالية، بل مجرد إنني أشعر هذه الأيام أن ذلك واضح وضوحاً كريهاً.
وعندما أبدأ التفكير في ذلك الأمر، لا أستطيع البقاء دون شرب الخمر. ولا أعتقد أن الخمر يؤثر سلباً أو إيجاباً على أعمالي أو على نظرتي الأدبية، ولكن الخمر تزلزل بعنف حياتي المعيشية. وكما ذكرتُ من قبل، فأنا لا أستطيع التحدث حديثاً مُرْضياً مع الآخرين، وبعد اللقاء أظل في حالة ندم قائلاً كان يجب أن أقول هذا وكان يجب أن أقول ذلك. ولأن شخصيتي أنني كلما قابلتُ أحداً أشعر تقريباً بدوار واضطراب، وأشعر بضرورة التحدث بحديث ما، لذا ألجأ بلا وعي إلى شرب الخمر. وحدث مرات كثيرة أن أضر ذلك بصحتي، أو قادني إلى الإفلاس المالي، ولذلك يميل بيتي إلى الفقر المدقع دائماً. وعندما أنام أظل أفكر في خطط متنوعة لتحسين الوضع، إلى أن وصلت إلى درجة أنه ما من حل إلا الموت.
إنني في التاسعة والثلاثين من عمري، ولكنني عندما أفكر أنني يجب عليَّ الحياة في هذا المجتمع أصاب بالذهول فقط، ولا أملك أية ثقة في نفسي. ولذلك، أحياناً ما أعتقد أنها مأساة أن يعول إنسان ضعيف بتلك الدرجة زوجة وأطفال.