لماذا لا يفقد الكتاب سحره أبدًا- هيرمان هيسه
“في تلك الساعة عندما تكون مخيلتنا وقدرتنا على الربط في ذروتها, قراءتنا حينها لا تعود مقصورة على ما هو مطبوع على الورق ولكننا نسبح في سيل من الحوافز والإلهامات التي تصلنا مما نقرأ.”
الفئات هي كيفية عبورنا للعالم سواء للأفضل أو للأسوء , مقولة أمبرتو إيكو الرائعة :
“أن هذا الحافز اتِّجاه التنظيم يساعدنا على جعل اللانهائية مفهومة ولكن الجانب الآخر منه محفوف بالمخاطر وهو منبع من الصور النمطية”.
وضع هيرمان هيسه هذه الطبيعة المتناقضة للفئات في قلب تصنيفه للثلاثة أنواع من القرّاء وهو نوع من التسلسل الهرمي لأساليب القراءة الذي أوجزه بالإجمال في مقال رائع بعنوان “في قراءة الكتب” في عام 1920. أُدرج فيما بعد في تحفته الفنية “اعتقادي :مقالات عن الحياة و الفن ” (المكتبة العامة) , وهي من مختارات هيسه الهائلة التي قدمت لنا الكاتب المحبوب والحائز على جائزة نوبل على: لماذا لا يفقد الكتاب سحره أبدًا.
من علم الأساطير القديم إلى علم النفس الحديث, قام هيسه بتدوين أنه تتناثر تجربة الإنسان مع هذه التصنيفات الشخصية. كتب هيسه:
” أنه لدينا ميل فطري لإنشاء أنواع في عقولنا وتقسيم البشر وفقاً لها. ولكن من المُجدي والموحِ عن هذه الفئات قد يكون في بعض الأحيان ممارسة جيدة ومثمرة لإتخاذ عينة إحصائية فيما يتعلق بالخبرة بطريقة أخرى وكشف أن كل شخص يحمل آثار في نفسه من كل نوع وأن الشخصيات والأمزجة المختلفة يمكن إيجادها كصفات متراوحة ضمن فرد واحد بغض النظر عما إذا كانت تنبع من تجربة شخصية بحتة أو من محاولة الإنشاء العلمي للأنواع.”
يؤكد هيسه بأنه عندما يتعلق الأمر بشخصياتنا كقرَاء فيكون هناك أمزجة مختلفة,وبما أنك قد تتخذ موقفاً مختلفاً تماماً اتِّجاه أي شيء في العالم، لذلك من الممكن أيضاً أن تتخذ موقفاً ما اتِّجاه الكتاب.
قبل نصف قرن أعلن إي بي وايت أن :
“الأطفال هم أكثر القرّاء على وجه الأرض عموماً انتباهاً وفضولًا وحرصاً وملاحظةً ودقةً وسرعةً وملاءمةً”. قام هيسه بتقديم تصنيف هرمي يستند على نفس وجهة النظر. وقام بتحديد ثلاثة أنواع رئيسية والتي يمكن أن تتواجد على نحو مماثل داخل قارئ واحد على مدار حياته بدءًا من القارئ البسيط الذي يواجه الكتاب كمجرد محتوى سواء كان ثقافياً أو جمالياً.”
في بعض الأحيان يقرأ الجميع ببساطة. هذا القارئ يستهلك الكتاب كما يستهلك الفرد الطعام فهو يأكل ويشرب ليشبع, هو ببساطة مُتلقي سواء كان صبياً يقرأ كتاب عن الهنود أو خادمة تقرأ رواية عن الكونتيسات أو طالب يقرأ لشوبنهاور.
القارئ من هذا النوع ليست له صلة بالكتاب كصلة شخص بشخص آخر ولكن كالحصان لفارسه أو ربما كالحصان لقائده فالكتاب يقود والقارئ يتبع. يُؤخذ الجوهر بموضوعية ويكون مقبول كحقيقة واقعة ولكنه اِعتبار واحد فقط ,فهناك أيضاً القرّاء المتعلمون تعليمًا عاليًا والمثقفون الَذين ينتمون كلياً إلى فئة البسطاء خصوصاً فيما يتعلق بالأدب الجميل. فما الجوهر والإعداد والإجراء اللازم للكتابة الملائمة للنفوس البسيطة وما فن الكاتب وثقافته اللغوية وعقلانيته لهؤلاء القرّاء المثقفين.
يفترض هذا النوع من القارئ بطريقة غير معقدة أن الكتاب موجود فقط ليُقرأ بأمانة واهتمام وأن يُحكم عليه وفقاً لمضمونه أو شكله, تماماً كرغيف خبز موجود لِيُؤكل وسرير لِيُنام عليه.
ثم انتقل هيسه لنوع القارئ الثاني على الرغم من أنه لم يطلق عليه مصطلح محدد إلا أنه من الممكن أن نسميه “مُستكشف بارع التصوير المجازي” وهو قارئ موهوب بانبهار طفولي الذي يرى إلى ما وراء سطحيات المضمون لسَبر أعماق الدافع الإبداعي لدى الكاتب بدقة.
إذا قام أحد باتِّباع طبيعة أحد وليس تعليمه فيصبح الشخص طفل مرة أخرى ويبدأ باللعب مع الأشياء فالخبز يصبح جبل لحفر أنفاق فيه والسرير يصبح كهف وحديقة وحقل ثلجي. طبيعة الصبي هذه والعبقرية باللعب أظهرها نوع القارئ الثاني. لا يُقدِر هذا القارئ محتوى الكتاب ولا شكله كأهم قيمة له لأنه يعلم بالطريقة التي يعلم بها الأطفال أن كل موضوع قد يحتوي على عشرة أو مائة من المعاني للعقل. على سبيل المثال, يمكنه مشاهدة شاعر أو فيلسوف يكافح من أجل إقناع نفسه, وهذا القارئ من تفسيره وتقييمه للأمور يمكن أن يبتسم لأنه ببساطة يرى إلزام وقسر واِستسلام في الخيار الظاهر لدى الشاعر وحريته. هذا القارئ هو بالفعل مُتقدم إلى حد أنه يعلم ما يتجاهله أساتذة الأدب والنقد الأدبي بالغالب وهو أنه لا يوجد شيء اسمه حرية اخيتار الجوهر أو الشكل.
من وجهة النظر هذه ما تُسمى القيم الجمالية تختفي تقريباً حيث يمكن أن تكون حوادث وحيرة الكاتب على وجه التحديد هي التي تقدم الكثير من السحر والقيمة. يتبع هذا القارئ الشاعر بطريقة الصياد الذي يتعقب فريسته وليس بطريقة الحصان الذي يطيع قائده. اكتساب لمحة خاطفة على نحو مفاجئ إلى ما يكمن وراء حرية الشاعر الظاهرة إلى قسره واِستسلامه يمكن أن يجذبه أكثر من كل التأنق فيما يتعلق بالفن الجيد والأسلوب المثقف.
يأتي بعد ذلك نوع القارئ الأخير وهو بالحقيقة ليس بقارئ بل حالم ومفسر.
على ما يبدو أنه القارئ من النوع الثالث والأخير على العكس تماماً مما يسمى عموماً: قارئ جيد. هو شخص بكل معنى الكلمة “مُحب لنفسه كثيرًا” لأنه الشخص الذي يواجه مسألة قراءته بحرية كاملة ولا يرغب أن يتعلم ولا أن يرفه عن نفسه فهو يستخدم الكتاب تماماً كأي شيء في العالم فالكتاب بالنسبة له مجرد نقطة إنطلاق وحافز. ما يقرؤُه لا يؤثر بالنسبة له أساساً , فهو لا يحتاج إلى فيلسوف ليتعلم منه ويسير على تعليمه أو ليهاجمه أو لينتقده. إنه لا يقرأ تفسير الشاعر للعالم ليقبله, بل يفسره لنفسه. فهو إذا أردت طفل تماماً يلعب مع كل شيء ومن وجهة نظر واحدة لا يوجد شيء أكثر فائدة وجدوى من اللعب مع كل شيء.إذا وجد هذا القارئ في أحد الكتب جملة جميلة أو حقيقة أو حكمة فإنه يبدأ بقلبها بتمرُس.
أتى الفيزيائي فرانك ويلكزك الحائز على جائزة نوبل بعد ما يقارب قرن ليكرر ويُؤكد الرأي الذي ينص على:
“يمكنك معرفة الحقيقة الغامضة بواسطة ميزة أن نقيضها هو أيضاً حقيقة غامضة”.
أضاف هيسه أن هذا القارئ قد عرَف منذ مدة طويلة أن لكل حقيقة العكس هو صحيح أيضاً, وأن كل وجهة نظر فكرية هي قطب يوجد له نقيض مساوي وصحيح. إنه طفل بقدر ما يضع أهمية عالية بشأن التفكير الترابطي ولكنه أيضاً يعرف نوع آخر من التفكير.
ولكن ما يمنح هذا القارئ تفوقه أو تفوقها على الأنواع الأخرى قبل كل شيء هي قُدرة مُدربة على التفكير الترابطي التي تُحول مادة القراءة إلى نقطة انطلاقة للفضول العشوائي التي تؤدي للقفز إلى أبعد من مادة معينة من كتاب معين. وبعد ربع قرن وصف المخترع فانيفار بوش الاستبصار النفسي برؤيته المتبصرة للشخص من النوع الذي سينتصر في عصر المعلومات, الشخص الذي يجد مُتعة في مَهمة إنشاء طُرق مفيدة من خلال الكم هائل من السجلات المتداولة في هذا العصر. دوَن هيسه: “أن هذا القارئ قادر أو بالأحرى كل شخص منّا قادر في الوقت الذي يكون في هذه المرحلة أن يقرأ ما يحلو له كرواية أو قواعد اللغة أو جدول مواعيد السكك الحديدية أو ورقة تجريبية من الطابعة. في تلك الساعة عندما تكون مخيلتنا وقدرتنا على الربط في ذروتها قراءتنا حينها لا تعود مقصورة على ما هو مطبوع على الورق ولكننا نسبح في سيل من الحوافز والإلهامات التي تصلنا مما نقرأ. فحينها,قد يخرج القرّاء عن النص ويمكن أن ينبثقوا بكل بساطة عن أسلوب الكتابة. حيث يُمكن لإعلان في صحيفة أن يصبح بوح للأفكار الأكثر بهجة وإيجابية والتي يمكن أن تنبع من كلمة لا صلة لها بالموضوع تمامًا والتلاعب بأحرفها كما هو الحال باللعب بلعبة أُحجية الصور المقطوعة. من الممكن في هذه المرحلة أن يقرأ المرءُ قصة ليلى والذئب-ذات الرداء الأحمر كأنها علم نشأة الكون أو فلسفة أو شعر غزلي منمق. أو أن يقرأ مُلصق “كولورادو مادورو”,(هو نوع من أنواع ورق التبغ الذي تُغلف به السجائر لونه بني غامق) الموجود على علبة من السجائر ويتلاعب بالكلمات والأحرف والأصوات وبالتالي القيام بجولة من خلال مئات الممالك من المعرفة والذاكرة والفِكر.”
توجه هيسه بكلامه إلى أن استخدام الكتاب كمشغل لآلة روب جولدبيرج هو ليس بقراءة إطلاقًا فيما يتعلق بالروابط التفسيرية-“فهل هي قراءة حقاً لإلتهام صفحة من صفحات غوته الغير مكترث لنواياه ومعانيه”؟ يظن المُعترض بأن هذا الأسلوب من القراءة أدنى وأكثر صبيانية وهمجيّة للجميع, ويعتقد بأنه اعتراض صحيح ويحتوي فوق ذلك على صحة نقطة مُعينة:أن كل أسلوب من القراءة هو ضروري لحياة كاملة ولكنه غير كافي بحد ذاته. وينبه بأنه يجب التأكيد على أن لا يوجد أحد منّا يحتاج أن ينتمي بشكل دائم إلى أحد هذه الأنواع.
كتب هيسه في قطعة تدعونا لتذكر مفهوم “أمبيرتو إكو للمكتبة الناهضة”:
“أن القارئ في مرحلة القرّاء الثلاثة لم يعد قارئ, والشخص الذي بقى في مرحلة ما بشكل دائم فإنه عما قريب سيترك القراءة إطلاقًا, فسيصبح التصميم لسجادة ما أو الترتيب للحجارة على حائط ذا قيمة كبيرة بالنسبة إليه كأجمل صفحة مليئة بأحرف مُنسقة بأفضل ترتيب. فالكتاب الواحد بالنسبة له قد يكون صفحة بحروف أبجدية.”
القارئ في المرحلة الأخيرة لم يعد بالفعل قارئ فهو لم يعُد يعبأ بغوته ولا يقرأ عن شكسبير, إنه ببساطة لم يعد يقرأ, لماذا الكتب ؟ هل لم يعد العالم بأسره ضمن ذاته ؟
أضاف هيسه قبل نصف قرن من ملحوظة أغنيس مارتن المهمة التي تنص على:
” جميعنا لدينا نفس الحياة الداخلية ولكن الفنان عليه أن يدرك ماهي”
” أن من يبقى بشكل دائم بهذه المرحلة لن يقرأ المزيد, ولكن لا يبقى أي أحد بشكل دائم فيها. من لم يستأنس بهذه المرحلة فهو قارئ بائس وغير ناضج. لأنه لا يعلم بأن كل الشعر والفلسفة التي في العالم تسكن بداخله وأن أفضل شاعر اِستَوحَى شعره من المصدر الذي كلاً منا يملكه في داخله وليس من أي مصدر آخر. فلتبقى مرة واحدة في حياتك لمدة ساعة أو يوم في المرحلة الثالثة وهي مرحلة عدم قراءة المزيد, سوف تصبح من ذلك الحين فصاعدًا قارئ ومستمع ومحلل لكل ما هو مكتوب بطريقة أفضل ولكنه من السهل جدًا أن تتراجع إلى المراحل السابقة. ستقف مرة واحدة فقط في المرحلة التي يعني لك فيها الحجر الذي على الطريق بقدر ما يعني لك غوته وتولستوي وستكتسب بعد ذلك مزيد من القيمة والخُلاصة والتأييد للحياة ولنفسك من غوته وتولستوي ومن جميع الشعراء أكثر من أي وقت مضى. لم تعُد أعمال غوته ومُؤلفات دوستويفسكي كما سبق, فهي ليست سوى مجرد محاولة مُبهمة وغير ناجحة لإستعادة أصوات العالم المزدحم الكثيرة، العالم الذي كان هو فيه نقطة الأساس.”
يُشبِّه هيسه هذا النوع من القراءة بالحلم أو ربما بما سماه ستيفن كينغ “النوم الإبداعي”. يُحول الحلم خامات الواقع المجموعة في حياتنا الواقعية إلى إبداعات العقل المذهلة المُتحررة من قيود الواقع. وعلى نحو مماثل، يستخدِم هذا النوع من القراءة النص الأصلي كمادة خام لأحاديث العقل الممطوطة والخيالية .
دوَن هيسه أن:
” الحُلم هو الفوهة التي يمكن من خلالها رؤية مضمون روحك وهذا المضمون هو العالم بأكمله لا أكثر ولا أقل من هذا العالم من يوم ولادتك إلى اليوم ومن هوميروس إلى هاينريش مان ومن اليابان إلى جبرلتار”مضيق جبل طارق” ومن سيريوس”نَجم الشِّعرَى اليَمَانِيَّة” إلى الأرض ومن ذات الرداء الأحمر إلى برغسون. لذلك فإن عمل مؤلف ما مُتعلق بالأمور التي سئِم من قولها بقدر مدى محاولتك لكتابة حلمك المتعلق بالعالم الذي طوَقه.”
في كمال القراءة اللامحدود وأهميتها التي لا تنفذ, تقف عاجزاً أمام كل شاعر و مُفكر دون أن تعي ذلك ولو لمرة واحدة وتأخد جزء يسير من المُجمل وتؤمن بالتفسيرات التي بالكاد تمُس الصفحة.
خلال المرحلة الثالثة التي تكون فيها على طبيعتك للغاية فإنك سوف تحسم قراءَتك وبالتالي ستُنهي ما تقرؤُه من قصيدة وفن وتاريخ العالم. ما لم تعرِف بالحدس هذه المرحلة, لن تقرأ أي كتاب أو علم أو فن ,إلا كقراءة التلميذ لقواعد اللغة.
والجدير بالذكر أننا نجد مُجمل كتاب هيسه “اعتقادي” في المرحلة الثالثة من مراحل القراءة وهي القراءة الفائقة. هذه النُبذة المُفصلة متممة لما كتبته فيرجينيا وولف في” كيف تقرأ” ولما كتبته باتي سميث في “نوعين من القطع النادرة” ولما كتبه كليف ستيبلز لويس في “لماذا نقرأ” ولما كتبه الكاتب الكبير روبرت جريفز ووضحه الكاتب الشاب موريك سينداك في “الكتاب الأخضر الكبير”.