مراجعات كتبنقد معاصر

ميلان كونديرا ورحلة البحث عن هوية الانسان وأزماته – عبد الباقي يوسف

الرواية هي الانسان, هي كتاب الحياة الاكثر اضاءة ووضوحا انها السراج إلى الاعماق المظلمة. يقول د. هـ. لورانس عن مهنته الروائية (بما انني روائي، فانني اعد نفسي اسمى درجة من القديس والعالم والفيلسوف والشاعر. فالرواية هي كتاب الحياة المشع). ويقول الناقد لايونل تريلنيج عن الرواية: (ان الرواية بحث مستمر وميدان بحثها هو العالم الاجتماعي، ومادة تحليلها هي عادات الناس التي تتخذ دليلا على الاتجاه الذي تسير فيه نفس الانسان). لقد حاولت الرواية عبر تاريخها المضيء ان تنقذ الانسان وتقدمه إلى نفسه، وتسعى للدفاع عن حريته وعن حقه في حياة حرة كريمة.

يرى ميلان كونديرا ان الأزمنة الهادئة التي كان الانسان لا يقاوم فيها سوى وحوش نفسه قد مضت اي أزمته جويس وبروست. يأتي الوحش في روايات كافكا وهازيك وموزيك من الخارج ويسمى التاريخ انه لم يعد يشبه قطار المغامرين انه لاشخصي, عسير الإدارة عسير الحساب, غير واضح ولا يفلت منه انسان.

انها اللحظة (غداة حرب 1914)التي رأت فيها كوكبة كبار الروائيين في اوروبا الوسطى وادركت المفارقات النهائية للأزمنة الحديثة. ان مراحل تاريخ الرواية شديدة الطول لاعلاقة لها ابدا مع التغييرات التكتيكية للموضات كما انها تمتاز بهذا الجانب او ذاك من الكائن الذي تدرسه الرواية في المقام الأول وهكذا فان الامكانات المتضمنة في الاكتشافات الفلوبيرية للحياة اليومية لم تطور على نحو كامل الا بعد سبعين سنة في مبدع جيمس جويس الضخم. يروي كونديرا قصة طريفة عن صديقه جوزيف سكفورسكي قائلا: دعي مهندس براغي للاشتراك في ندوة علمية تعقد في لندن, وقد ذهب وشارك في الجلسات ثم عاد إلى براغ, وبعد ساعات من عودته تناول في مكتبه صحيفة (رود برافو) ـ وهي صحيفة الحزب الرسمية ـ وقرأ فيها: قرر مهندس تشيكي كان قد ندب للمشاركة في ندوة في لندن بعد ان اطلق تصريحا امام الصحافة الغربية شتم فيه وطنه الاشتراكي لان يبقى في الغرب. ليست الهجرة غير المشروعة التي يرافقها مثل هذا التصريح امرا تافها. اذ انها تعني عشرين سنة في السن لم يكن بوسع مهندسنا ان يصدق عينيه. وحين دخلت سكرتيرته مكتبه ذهلت لدى رؤيتها له قائلة: يا الهي.. كيف عدت.. غير معقول الم تقرأ ما كتب عنك؟. رأى المهندس الخوف في عيني سكرتيرته. ماذا يسعه ان يفعل؟ هرع إلى إدارة تحرير (رود برافو) وهناك عثر على المحرر المسئول عن نشر الخبر, وقد اعتذر له هذا الاخير فعلا اذ ان المسألة مزعجة حقا, لكنه هو المحرر, لادخل له في الموضوع, فقد تلقى نص الخبر مباشرة من وزارة الشئون الداخلية. ذهب المهندس إلى الوزارة اذن, وهناك قيل له: نعم, هذا صحيح. انه ولاشك خطأ قد وقع لكنهم في الوزارة لا دخل لهم في الأمر فقد تلقوا التقرير عن المهندس من إدارة الاستعلامات في السفارة بلندن. طلب المهندس نشر تكذيب للخبر, فقيل له: التكذيب غير ممكن لكنهم اكدوا له انه لن يتعرض لشيء وان بوسعه الاطمئنان. لكن المهندس لم يطمئن اذ سرعان ما انتبه على العكس إلى انه يخضع لرقابة صارمة والى ان محادثاته الهاتفية قيد التسجيل والى انه ملاحق في الشوارع. لم يعد يسعه النوم ثم صار نومه حافلا بالكوابيس الى ان جاء يوم لم يعد يحتمل فيه هذا الضغط فغامر معرضا نفسه لاشد المخاطر كيما يترك البلد بطريقة غير مشروعة لقد صار بذلك مهاجرا فعلا. سلطة بلا حدود يعلق كونديرا على هذه الواقعة قائلا: واجه المهندس سلطة لها طابع متاهة بلا حدود لن يبلغ ابدا نهاية دهاليزها اللانهائية ولن ينجح ابدا على من صاغ الحكم لقد عوقب مهندسنا برقابة بوليسية مكثفة وهذا العقاب يطالب بالجريمة التي لم تقترف بعد, فالمهندس الذي اتهم بالهجرة ينتهي إلى ان يهاجر بالفعل. لقد عثر العقاب اخيرا على الخطيئة. يقول كونديرا عن روايته: (كائن لا تحتمل خفته): لقد لاحظت اثناء كتابتي رواية (خفة الكائن الهشة) ان رمز تلك الشخصية أو هذه يتألف من بعض الكلمات الجوهرية فبالنسبة لتيريزا مثلا: الجسد, النفس, الدوار, الضعف, المثل الاعلى, الجنة. وبالنسبة لتوماس: الخفة, الجاذبية في الفصل الذي يحمل عنوان الكلمات غير المفهومة ـ افحص الرمز الوجودي لكل من فرانز وسابينا بتحليل عدة كلمات: غير المرأة, الاخلاص, الخيانة, الموسيقى, الظلمة, النور, الموكب, الجمال, الوطن, المقبرة, القوة. لكل واحدة من هذه الكلمات دلالة مختلفة في الرمز الوجودي للاخر. في (خفة الكائن الهشة) تعيش تيريزا مع توماس لكن حبها يتطلب منها استنفار كل قواها وفجأة لم تعد تستطيع الاحتمال فتريد العودة إلى الوراء إلى الاسفل من حيث اتت. ان مهمة الرواية مهمة صعبة ولا يمكنها ان تحقق غايتها وهذا هو سر استمرار الرواية في بحثها المستمر عن الحقيقة التي تزداد غموضا. بحث عن الهوية يركز ميلان كونديرا في معظم رواياته وايضا في كتابه (كتاب الضحك والنسيان) الذي يتألف من سبعة اجزاء على علاقة الانسان بذاته وفقط عندما يصل إلى ذاته, يصل إلى الآخرين. فهو من اشد المعجبين بـ دستويفسكي فيقول عنه: انه يبدع في شخصياته عوالم عقلية غنية وأصيلة بشكل خارق, يحلو لنا ان نبحث في شخصياته عن افكاره. وربما ينطبق شيء من هذا على كونديرا نفسه الذي لا نستطيع ان نتعرف اليه بشكل واضح الا عبر شخصياته. يقول: تعكف جميع الروايات في كل زمان على لغز (الانا) اذ ما ان تبتكر كائنا خياليا, شخصية قصصية, حتى تواجه آلياً السؤال التالي: ما هي الانا؟ وبم يمكن ادراك الانا؟ انه واحد من هذه الاسئلة التي تقوم عليها الرواية بوصفها كذلك. يقص علينا بوكاشيو احداثا ومغامرات مثلا, ومع ذلك نتميز وراء كل هذه القصص المسلية القناعة التالية وهي ان الانسان يخرج من عالم الحياة اليومية المتكرر التي تتشابه فيه الاشياء جميعا بواسطة الفعل وبالفعل انما يتميز الانسان عن الآخرين ويصير فردا. قال دانتي: (يقوم القصد الأول للفاعل في كل فعل يمارسه على كشف صورته الخاصة به) فهم الفعل في البدء على انه اللوحة الذاتية للفاعل لكن (ديدرو) , بعد اربعة قرون من بوكاشيو كان اكثر شكا اذ يفتن بطله جاك القدري خطيبة صديقه ويسكر من السعادة, لكن اباه يضربه وتمر كتيبة عسكر فيلتحق بها ويتلقى رصاصة في ركبته عند أول معركة تجعله يعرج حتى موته. يقول كونديرا عن هذه الحادثة: كان يظن انه يبدأ مغامرة غرامية في حين انه كان يتقدم في الواقع نحو عاهته, ومن ثم فانه لم يستطع ابدا ان يتعرف ذاته في فعله. ان الطابع المعقد للفعل هو احد اكتشافات الرواية الكبرى, هاهنا تأتي اللحظة التي يتوجب فيها على الرواية في بحثها عن الانا ان تهمل عالم الفعل المرئي لتعكف على اللامرئي في الحياة الداخلية. ارضية خصبة ان كونديرا ينطلق من ارضية ثقافية خصبة وهو المشبع من قراءة روايات عظماء الروائيين: مارسيل بروست ـ جيمس جويس ـ ستندال ـ جوته ـ ريتشارد سون ـ بوكاشيو ـ كافكا وغيرهم. يقول كونديرا محاولا اعطاء صورة واضحة عن مجمل مشروعه الروائي: لقد انتهى البحث عن الانا دوما وسينتهي دوما إلى عدم اشباع غريب ولا اقول إلى فشل. لان الرواية لا تستطيع اختراق حدود امكاناتها الخاصة بها. كما ان اضاءة هذه الحدود يعتبر اصلا اكتشافا كبيرا واستثمارا ادراكيا هائلا سوى ان كبار الروائيين, بعد ان مسوا القاع الذي يقتضيه سبر الحياة الداخلية للأنا بالتفصيل بدأوا البحث بوعي أو بغير وعي, عن توجه جديد. وان كان كونديرا يرفض ان يضف ضمن سلسلة أو قائمة الروائيين السيكولوجيين فان رواياته لا تستطيع ان تتخلص من هذه المدرسة التي ربما تكون احدى أهم واكبر وظائف الرواية ولذلك يريد ان يشير إلى هذه الحقيقة قائلاً: لكن افهمني جيدا, اذا كنت اضع نفسي فيما وراء الرواية السيكولوجية فلا يعني هذا انني اريد حرمان شخصياتي من الحياة الداخلية. ميلان كونديرا يعد الان واحدا من الروائيين الكبار في العالم إلى جانب جابرييل ماركيز ونجيب محفوظ ويأتي تمييزه بسعة اطلاعه على جذور الرواية في التاريخ البشرى.

  • نُشر المقال لأول مرة في صحيفة البيان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى