هيغل، التنوير، والثورة
بقلم: Doug Enaa Greene، Harrison Fluss
ترجمة: علي سليمان الرواحي
“من جانبه أشاد هيغل بالثورة الفرنسية باعتبارها حدثا ً “تاريخيا ً عالميا ً”، وعلى وجه التحديد بسبب مشاركة الإنسان فيها، بغض النظر عن الدين أو الأمة. وغني عن القول، أن ماركس وأنجلز شاركا هذا الرأي بالكامل في وقتهما. أرنو ماير، من كتاب “الغضب”.Arno Mayer, The Furies.
“وبالمثل احتضن هيغل الشاب مُثل الثورة، ذلك أن ميل كل من هيغل وهولدرلين لربط الثورة “بالتجدد الأخلاقي والروحي”، وعصر المستقبل من الجمال والحُرية، والمستمدة جزئيا ً من إنغماسهم المتزامن خلال أوائل عام 1790م، مع السبينوزية Spinozism، والنصوص الجدلية الألمانية عن سبينوزا العظيم عام 1780م. جوناثان إسرائيل، كتاب “أفكار ثورية”.Jonathan Israel, Revolutionary Ideas.
لماذا هيغل؟
يُقدم لنا هيغل في كتابه “ظاهريات الروح أو فينومينولوجيا الروح” Phenomenology of Spirit (1807)، واحدة من أعظم النظريات النقدية الهامة للتنوير. حيث كتب الفيلسوف الألماني هيغل كتابه في منتصف الحروب النابليونية، وتقول الأسطورة أن الحبر الموجود في المخطوطة كان لا يزال رطبا ً عندما هرب هيغل أثناء معركة يينا عام 1806م. وحتى في ظل الإحتلال الفرنسي لألمانيا، رأى هيغل نابليون على أنه “روح العالم” “world-spirit” على ظهور الخيل، ودعم الأفكار الثورية الفرنسية للمؤسسات الليبرالية في جميع أنحاء أوروبا(.([1] فمن خلال كتاب “الفينومينولوجيا أو الظاهريات” هذا، يعنى هيغل بتطوير النشاط البشري، أو العملية التاريخية للتحرر، كما أنه كتبها باعتبارها ملحمة فلسفية لحرية الإنسان. ولسوء الحظ، أثناء تخصيص بعض المساحة لمناقشة وجهات نظر هيغل السياسية، فشل جوناثان إسرائيل Jonathan Israel في معالجة إرتباط كتاب “الفينومينولوجيا” بمشروع التنوير، وكذلك آثاره على الثورة الفرنسية وما بعدها.
تتمتع فلسفة هيغل بسمعة كونها صعبة الفهم، ويمكن أن تكون بعض المقاطع في كتاب “الفينومينولوجيا” التي تتعامل مع التنوير شاقة، ومُتعبة. ومع ذلك، نحتاج إلى شرح تحليل هيغل بعناية، نظرا ً لأنه كان مصدرا ً نظريا ً حاسما ً لفهم ماركس Marxللتنوير. ومثل ماركس، لم تكن انتقادات هيغل مطلقا ً لتنبذ إرث التنوير. وكرائد في التفكير الجدلي(الديالكتيك)، ينظر هيغل إلى التنوير الأوروبي كظاهرة متناقضة لها جوانب إيجابية وسلبية. وبينما يرفض الآثار الذرية atomizing لليبرالية، فهو يدرك أن المساهمات الإيجابية للتنوير موجودة لتبقى. وتشمل: الحريات العالمية، سيادة القانون، إلغاء الامتيازات الأرستقراطية، وتنمية القوى المُنتجة.بشكل ٍ عام، كانت إنجازات الثورة الفرنسية مكسبا ً دائما ً للبشرية([2])، وهكذا، بالنسبة لهيغل كان التنوير لحظة ضرورية في تاريخ العالم، والتي بدونها لن تكون هناك حريات حديثة.
في ظل الثورة الفرنسية:
وكما أشار الشباب الهيغليون مثل: برونو باور Bruno Bauer، فإن “الفينومينولوجيا” هيغل لم تترك بالفعل تربة الثورة الفرنسية([3]). فالكتاب يُقرأ على انه بيان سياسي مليء بالحماس الثوري، إن لم يكن الغضب الخفي ضد ردة الفعل الألمانية. عندما قرأ ماركس “الفينومينولوجيا” في عام 1844م، أعاد بناء تعبيرات هيغل الفلسفية في شكل أكثر دنيوية، أي أشكال مادية([4]). في حين أن هيغل يُعبر عن هذه الصراعات في سياق ٍ مثالي، أو كما أطلق عليه هيغل الصراع بين التنوير والإيمان حيث كان هذا هو القناع الأيديولوجي الذي أرتدته الثورات البرجوازية. ففي حين أن هيغل يُعبر عنها في سياق مثالي، كمعركة بين اشكال مختلفة من الروح البشرية، فإن هذه المعارك الطيفية تبدو أن لها أساس حقيقي في قوى الطبقة المادية. ولكن، لإعطاء هيغل حقه، لا يمكننا تجاهل التناقضات المادية التي يتم محاربتها في عالم الوعي، إو في عوالم البنية الفوقية السياسية والثقافية([5]). حيث يعتبر تعليق هيغل مثاليا ً بقدر ما تأخذ العناصر الفوقية أولوية. لذلك، مهمتنا كماديين هي وضع هيغل على قدميه، أو الانتقال من مثالية هيغل إلى المادية التاريخية([6]). وهذا يعني الانتقال من القصائد المثالية “للفينومينولوجيا” إلى النثر المادي للصراع الطبقي. وبعبارة أخرى، في العمل من خلال هيغل، نقترب من ماركس.
كمقدمة للمادية التاريخية، توضح فلسفة هيغل أن انتصار التنوير البرجوازي على الإقطاع كان ضرورة تاريخية، ولكنه ليس انتصارا ً كاملا ً لحرية الإنسان. مثل بلزاك Honoré de Balzac، وتشارلز فورييه Charles Fourier، كان هيغل ناقدا ً مبكرا ً للجوانب اللاإنسانية للمجتمع البرجوازي، واصفا ً إياها ب”مملكة الحيوانات الروحية”([7]). ما يشير إليه هيغل في فصله “الحرية المطلقة والرعب” هو فشل اليعاقبة Jacobins، أحد أكثر الأحزاب الردايكالية في الثورة الفرنسية، في تجاوز تناقضات الرأسمالية الناشئة. لم يتمكن هيغل نفسه من إيجاد مخرج من هذه العقدة الغوردية (هي أسطورة إغريقية تُنسب للإسكندر الأكبر، ويستخدم المصطلح عادة للدلالة على مشكلة صعبة الحل يتم حلها بعمل أنيق وجرئ- المترجم، بتصرف)، وأدان أي جُهد ثوري للتغلب على عدم المساواة البرجوازية باعتباره مخرجا ً طوباويا َ([8]).
مع هذا التأسيس الهيغلي، واصل ماركس وإنجلز تحليلهما للتنوير وإرهاب اليعاقبة، مما يدل على أن الوعود الأصلية بالحرية والمساواة لا تتوافق مع المجتمع الطبقي. ومنذ إقترنت شعارات الثورة الفرنسية بواقع الرأسمالية، أصبحت تجريدات التنوير صلبة، وغير عقلانية. ففي تعبيراتهم المجردة، أصبحت “الحرية” حرية استغلال قوة العمل، بينما أصبحت المساواة حيلة قانونية أخفقت العلاقة غير المتكافئة بين العُمال نصف الجائعين ورؤسائهم الذين يتمتعون بتغذية ٍ جيدة. وكما قال الروائي والكاتب الفرنسي أناتول فرانس Anatole Franceذات مرة، فإن القوانين، مع “مساواتها العظيمة”، “تمنع الأغنياء والفقراء على حد ٍ سواء من النوم تحت الجسور، والتسول في الشوارع، وسرقة خبزهم”([9]). على النقيض من هيغل، حدد ماركس وإنجلز الأداة للتغلب على المجتمع البرجوزاي في الطبقة العاملة. في الوقت الذي خانت فيه البرجوازية في مواجهة البروليتاريا المتمردة إنجازاتها الخاصة، مفضلة الديكتاتورية العسكرية على الديمقراطية، كان بإمكان العُمال فقط التقدم للإمام في الفكر والثقافة البرجوازية. ولإعادة صياغة إنجلز، فإن البروليتاريا هي وريث عصر التنوير([10]).
في توبنغن ستيفت Tübingen Stift، معهد اللاهوت، كان الشاب هيغل وزملاؤه مهووسين بالثورة الفرنسية وقدرتها على قلب الدين المحافظ والسياسة. لم يكن هؤلاء الطلاب يتدربون على يد البروتسانت التقليديين كنوع من الشكليات: حيث أنهم تابعوا باهتمام آخر الموضات الفكرية للثقافة الفرنسية، بما في ذلك كتابات روسو Rousseau(([11]. قبل ذروة الرعب، شارك هيغل في نادي اليعاقبة للطلبة، حيث زرع قدوة ثورية مع زملائه هولدرلين وشلينغSchelling. حيث فهم هيغل كيف قاد العداء الطبقي وعدم المساواة الجماهير الفنرسية نحو الثورة.ومع ذلك، لم يكن هو نفسه من اليعاقبه، بل كان متعاطفا ً أكثر مع الجيرونديون Girondin(أعضاء حزب سياسي نشأ أثناء الثورة الفرنسية – المترجم). في رسائل هيغل إلى شلينغ عام 1794م، نرى تحولا ً على وضع روبسبير Robespierre في المقصلة)[12](.
يُدرك هيغل أن كل أحداث وأفكار الثورة الفرنسية استدعت بعضها البعض. ووفقا ً للمقدمة، فإن مهمة علم “الفينومينولوجيا” هي إظهار العلاقة بين الأفكار و”ضرورتها الداخلية”، أو كيف تظهر في التاريخ([13]). ذلك أن مرحلة اليعاقبة، بقدر ما كان يكرهها شخصيا ً، يعتبرها نتيجة حتمية للنضال من أجل التنوير في فرنسا، حيث كان الإرهاب أو الرعب مكونا ً ضروريا ً للثورة. لماذا كان التنوير الفرنسي عنيفا ً جدا ً مقارنة بالألماني، وفقا ً لهيغل، كان نتيجة لثقافات دينية مختلفة. أثار عدم تحمل النظام القديم استجابة دامية ودموية، بينما بفضل التنوير البروتستانتي، كان التنوير الألماني سلمي نسبيا ً. ولكن كما أشار هيغل، فإن السلام والهدوء الظاهر لم يشر إلى تفوق الثقافة الألمانية ولكن تخلفها. لا يمكن لفلسفة العقل العملي لإيمانويل كانط Immanuel Kant أن تُحقق نفسها في الظروف الألمانية، في حين أن عقيدة روبسبير الفاضلة مزقت ثقافة إقطاعية كاملة. أحد أشهر طلاب هيغل، هاينريش هاينه Heinrich Heine، انتقد أن كانط فيلسوف شجع على القتل فقط، بينما دانتون Danton وروبسبير كثوريين إرتكبوا القتل([14]).
جدلية التنوير لدى هيغل:
في “الفينومينولوجيا” يبدأ هيغل تحليله للتنوير على أنه صراع بين “البصيرة النقية” “Pure Insight” في مقابل “الإيمان””Faith”. تُمثل “البصيرة النقية” قوى النقد المجردة، والتي هي جزء من قوى العقل المنفردة التي تسعى لتحرير نفسه من الميتافيزيقا. فهو يمثل جانبا ً من العقل الوضعي الذي يتأرجح بين قطبين مختلفين: إما أنها تتخذ موقف التجريبية مع التأكيد على الحقائق الملموسة من خلال القوانين العالمية، أو، في إتخاذ موقف الشكليات، فإنه يؤكد على القوانين المرنة في مقابل وقائع متماسكة. وبكلمات ٍ أخرى، إما أن الحقائق لا تتطابق تماما ً مع مفاهيمها المجردة، أو أن المفاهيم لا تلتقط الحقائق بشكل ٍ كافٍ([15]).
ومع ذلك، يدّعي هيغل أن التجريبية الساذجة لها مزاياها. في فلسفة التاريخ، كتب أنه “من الأهمية بمكان أن يتم إختزال تعدد الأشكال المُعقد إلى أبسط ظروفه، ووضعه في أشكال ٍ عالمية([16]). “فالبصيرة النقية” هي ما يسميها هيغل بالفهم، والذي يضم فئات مختلفة تدرك الأشياء المحدودة والعلاقات الثابتة. على عكس ما يسميه هيغل “العقل الجدلي”، حيث الحقيقة كلها، لا يمكن للفهم أن يدركها بالكامل في كل وجودها وتطورها الملموسين. ولكي نكون واضحين، عندما ينتقد هيغل الفهم، فذلك ليس لأن الفهم “عقلاني”، بل لأنه أحادي الجانب، وليس عقلانيا ً بما يكفي. لا يمكن للفهم، سواء ً بشكل ٍ تجريبي أو شكلي منطقي، أن يدرك تعقيد الكُل، أو ما أسماه الماركسيون الهيغليون أمثال جورج لوكاش Georg Lukács بالكُلية([17]). تتضمن “البصيرة النقية” أيضا ً فهما ً مزدوجا ً للعلاقات الاجتماعية، حيث يُنظر للناس إما على أنهم مستهلكون وأفرادا ً منعزلون، أو كمواطنين متساويين أمام القانون بدون الإشارة للطبقة. وبالتالي، طالما أن هذا النوع من التنوير لا يستطيع التغلب على تناقضاته الفلسفية الخاصة، فإن هذه الحدود المعرفية(الابستمولوجية) لها عواقب سياسية. وكما يقول هيغل، لا يزال هذا التنوير بحاجة لمزيد من التنوير([18]).
تنفصل “البصيرة النقية” عن “سُلمّ الطبيعة” “scala naturae” للعصور الوسطى، الذين رأوا الأشياء كجزء من سلسلة كبيرة من الوجود، أو تسلسل هرمي لعلاقات ثابتة مع الله. وعلى عكس “البصيرة النقية”، ولكن على غرار ذلك، يتمسك موقف الإيمان باليقين المجرد في الله. فالإيمان، مع ذلك، لا يمكن أن يثبت يقينه في الإله بعقلانية. يضع هيغل هذا التناقض بين “البصيرة النقية” و “الإيمان”، في شكل تأملي: فالبصيرة النقية، في المقام الأول، ليس لها محتوى خاص بها، لأنها سلبية لنفسها، وللإيمان، من ناحية ٍ أخرى، محتوى، ولكن بدون بصيرة)[19](. ومن ناحية، تُعد “البصيرة النقية” شكلا ً من أشكال النقد العقلاني، ولكن بدون أي محتوى ثابت خاص بها، وبهذه الطريقة، هي سلبية بحتة. ومن ناحية ٍ أخرى، الإيمان هو إعتقاد بسيط، لكنه يفتقر إلى أي مسوغ عقلاني لإيمانه بالله.
يقارن هيغل إنتشار التنوير بالفيروس، والذي يصيب بدون قصد دعاة الإيمان عندما يحاولون معارضة البصيرة النقية بالحجج. ذلك انه كلما حارب الدين أكثر البصيرة النقية، كلما انتشر أكثر، حتى فات الأوان وأصاب الفيروس الثقافة بأكملها:
بدلا ً من ذلك، فالكينونة الآن روحا ً غير مرئية وغير محسوسة، لذلك يتسلل “التنوير” إلى الأجزاء النبيلة من خلال، وعن طريق، سرعان ما يستحوذ على جميع الإعضاء الحساسة والحيوية للمعبود اللاواعي؛ ثم “في صباح أحد الأيام الجميلة يمنح رفيقه دفعة من مرفقه، والإنفجار! يصطدم! بالصنم على الأرض([20]).
في وصف التنوير بأنه دفع الخرافات للأرض، يقتبس هيغل من إبن شقيق راميس ديديروت Denis Diderot’s Rameau. يُظهر حوار ديدرو الساخر الوعي المُحطّم للثقافة الفرنسية، حيث يتحول النبلاء والأنقياء إلى نقيضها المبتذل والقذر. تكشف قوة نقد التنوير أن صرح الإقطاع فاسد ومتدهور ويستحق الهلاك. ذلك أن العواطف الإقطاعية، والأعراف الأرستقراطية قد عفا عليها الزمن في ضوء العلاقات الجديدة للمجتمع المدني البرجوازي. وبكل صراحة، فالمال هو الذي يحكم، والفضيلة ليس لها مكآفآتها الخاصة. فنحن لا نعلم ما إذا كانت تُكافأ في السماء، لكنها بالتأكيد ليست هنا على الأرض.
بعد تحطيم جميع الأصنام المقدسة، فإن نقد التنوير يؤرق النقاد أنفسهم فقط. ذلك أن الناقد المغرور يواجه ما أسماه هيغل “مملكة الحيوان الروحية” “spiritual animal kingdom” للمصلحة الذاتية البرجوازية([21]). وقد قدّر كل من هيغل وماركس ديدرو كمثال ٍ رائع للنقد الاجتماعي وكدليل جدلي في حد ذاته([22]). حيث تكشف جدلية ديدرو الاجتماعية كيف تتحول النعمة المتحضرة للمجتمع الفرنسي إلى نقيضها المنافق؛ فوراء الواجهة المحترمة لإلزام النبلاء كان الكثير من الغرور والجشع المكبوت.
يرحب هيغل بالتصفية التي تحدث في عصر التنوير، بما في ذلك العاطفة الارستقراطية والتبجيل المهين للنبلاء. كما يعتبر هذا في جدلية التنوير مكسب إيجابي في تطور الروح. فالمنفعة هي المسكب الإيجابي لمفهوم التنوير، وذلك بعد هزيمة الإيمان بواسطة البصيرة النقية، فلاشيء يمنعها من التعامل مع العالم كله على أنه مفيد لنفسه، ليصبح كل شيء مفيدا ً للأنا الفردية، وحتى يتم العثور على الإيمان لبعض الإستخدامات أيضا ً.وبما أن العالم ينفتح على الاستخدامات البشرية، فإن المنفعة ليست كلها سيئة بالنسبة لهيغل، ففي المنفعة “البصيرة النقية تحقق إدراكها وأهدافها، وهو شيء لم تعد ترفضه الآن، ولم يعد لها أيضا ً قيمة في تجنب ما وراء هذا النقاء([23]). وبالتالي، فالمنفعة لها مضمون إيجابي.إنه ليس مجرد إنكار بسيط للإقطاع، بل هو شكل من أشكال العقل يُمكّن البشرية من إعادة تشكيل العالم وفقا ً لإحتياجاته المادية.
حقيقة التنوير:
عند ترجمة هيغل ماديا ً، يمكننا أن نقول أن “حقيقة” التنوير هي حقيقة المجتمع البرجوازي. وبحسب لوكاش Lukács، فإن هيغل “يصور العلاقات بين الأشخاص في الرأسمالية ويظهر أنها…الشكل الأكثر تقدمية للتطور البشري، والشكل الأكثر ملائمة للروح([24]). ذلك أن تحت الرأسمالية، على الأقل في هذه المرحلة من التاريخ، يمكن للبشر أن يحافظوا على انفسهم إجتماعيا ً بينما يبدو أنهم “يتابعون مصالحهم الأنانية” في وئام([25]). علاوة على ذلك، يجادل لوكاش بأن ما يعنيه هيغل بفائدة الأشياء (أو منفعتها) هو التعبير المثالي عما سيطلق عليه ماركس لاحقا ً علاقات السلع commodity-relations.
فالسلعة لها الطابع المزدوج لقيمة الاستخدام وقيمة التبادل. فمن ناحية، استخدام القيمة هو كيف يرضي الموضوع بشكل ٍ ملموس حاجات الإنسان. ومن ناحية ٍ أخرى، فإن قيمة التبادل هي الجزء الكمي الذي يتم تبادل السلع مقابله.وعلى حد تعبير الاقتصادي إرنست ماندل Ernest Mandel، “يمكن إنتاج السلعة للتبادل في السوق، بغرض بيعها، وليس للإستهلاك المباشر من قبل المنتجين أو الطبقات الغنية”([26]).
وبينما يقول هيغل بأن البصيرة النقية قد وجدت عالما ً مفيدا ً لنفسها، إلا أنها لم تفهم تناقضات المنفعة، أو بشكل ٍ أكثر تحديدا ً، الطبيعة المتناقضة antithetical لشكل السلعة. ما يشير إليه هيغل على انه غير إنساني، يمكن أن يقلل منفعة الكينونة البشرية إلى أشياء مفيدة أيضا ً، وهو ما سيطلق عليه ماركس بالإغتراب alienation (([27] وبما أن في الرأسمالية لا يمكن فصل قيمة الاستخدام عن القيمة التبادلية، فلا يمكنها تلبية احتياجات الإنسان بالكامل. وبالتالي، فإن سيطرة المنفعة يعني سيطرة عهد الاغتراب البرجوازي. لنفرض ذلك وبقسوة بعيدا ً عن الهيغليين، بأنه في ظل الرأسمالية تفرض قواعد الربح على الناس. وحتى الآن، كانت الرأسمالية أكثر اشكال الحضارة الإنسانية تقدمية، لكنها الأكثر تنافرا ً.
في سعيه للتغلب على الاغتراب، ينتقل التنوير نحو ما يسميه هيغل “الحرية المطلقة” Absolute Freedom. حيث تواجه الذات المستنيرة العالم خارج نفسها على انه غير واقعي، وتريد إلغاء هذا العالم لصالح حريتها المحضة. ففي هذا التحول، يتم التضحية بالمحتوى الإيجابي للمنفعة، أو الحاجة البشرية، من أجل الإرادة المحضة، التي لا تعرف سوى واقعها.وهذا تطور مثير للقلق بالنسبة لهيغل، طالما أن الحرية المطلقة تُخلص نفسها من أي شيء ملموس أو مادة كعائق أمام إرادتها. فهو عمل تطوعي مجرد يتصرف بدون معرفة ملموسة. ومع ذلك، بقدر ما تقضي الحرية المطلقة في “غضب تدمير” جميع بقايا الثقافة الإقطاعية، فهي تُعتبر لحظة دموية ولكنها ضرورية في تطور الروح. هذه هي الطريقة التي يفهم فيها هيجل الرعُب، حيث أن اليعاقبة ليسوا انحرافا ً عن التنوير الفرنسي، ولكنهم النتيجة الحتمية في النضال ضد الإقطاع.
فالحرية المطلقة تكشف عن نفسها على انها إرادة وحدوية، ومتصلبة. تاريخيا ً، الحرية المطلقة معادلة فرادة روسو Rousseau العامة. حيث أن هذه الإرادة العامة ترتاب في كل من يعارضها. وبالتالي، تصبح الحرية المطلقة مرعبة. هنا، يعزل هيغل الجوانب التطوعية لروسو وتلاميذه اليعاقبه، الذين يناصرون الفضيلة السياسية من أجلها، بغض النظر عن الظروف المحيطة. ذلك أن مشروع اليعاقبة كان طوباويا ً في نهاية المطاف، حيث لم يتمكنوا من التغلب على جوانب الإغتراب للمجتمع البرجوازي عن طريق موضوع سياسي مجرد. كما أن محاولات العودة لجمهورية أسبرطة Spartan Republic بما تعنيه أكثر نقاء، وأخلاقا ً، قد تعارضت مع احتياجات المنفعة. وكما سنرى مع ماركس، أثبتت المنافع البرجوازية أنها قوية للغاية حتى أمام المقصلة.
هيغل واليعاقبة:
ومع ذلك، فإن هيغل يُثني على روبسبير، وسانت جست Saint-Just(زعيم اليعاقبة أثناء الثورة الفرنسية – المترجم)، بوضع الأسس لدولة ٍ سياسية جديدة “نقية، وتهيمن بخوف” “pure, frightening domination(([28]. حتى أنه يقارن روبسبير مع ثيسيوس Theseus البطل التاريخي العالمي، ويُحدد استبداده الضروري على انه إلهي([29]). لكن بينما تابع اليعاقبة أجندة سلبية لتدمير الثقافة القديمة، لم يتمكنوا من إنشاء جمهورية الفضيلة. فالإرهاب، أو الإرادة السياسية التي تؤكد نفسها في مواجهة الضرورة المادية، لا يمكنها أن تخلق أي شيء دائم، ولكن يمكنها فقط تكديس الجثث.وبحسب تعبير فيكتور هوغو Victor Hugo، فإن “المقصلة غابات بكر: فهي تُبيد، ولا تلد”([30]). يعترف هيغل بأن اليعاقبة خدموا أغراضهم السلبية بشكل ٍ جيد، لكنهم لم يتمكنوا من إقامة أي مؤسسات برجوازية مستقرة، ناهيك عن التغلب على التناقضات الاجتماعية في وقتهم. وكما قال روبسبير في خطاب ٍ أخير في 8 ثيرميدور(الشهر الحادي عشر في التقويم الفرنسي للجمهورية، وهو الشهر الثاني من فصل الصيف – المترجم) “الثورة المضادة تسري في جميع أجزاء الاقتصاد السياسي”([31]). حيث وصل القرن التاسع عشر من الرأسمالية، أخيرا ً، باستخدام روبسبير كأداة ٍ يمكن التخلص منها. فبمجرد أنه لم تعد الحاجة لروبسبير، حان الوقت للخروج من المرحلة التاريخية، والذي كان بدوره حينها في المقصلة.
ففي هذه المرحلة من كتاب “الفينومينولوجيا”، ينظر الروح للحرية المطلقة كعجز، وغير قادر ٍ على تغيير العالم بشكل ٍ فعال. فبسبب الخوف من رُعب روبسبير، تنحسر الروح إلى نفسها، وتتبادل عالم السياسة مع عالم العقل. فالروح التي صُدمت من هزيمتها الخاصة، تعبر نهر الراين Rhine ويتحول صخب الحُرية الفرنسية إلى أخلاق ألمانية متواضعة، وملتزمة بالقانون. حيث أصبحت الثورة فلسطينية philistine، والبرجوازية تكتفي الآن بالنفاق بكونها “نقية” الروح على ما يبدو، خالية من الأشكال الدنيوية. ولكن كلما دعمت نقائها المتعالي، كلما تركت مصالحها البرجوازية الصغيرة دون أن تمسها. كما تم التخلي عن السياسات الثورية، وتحولت إرادة روسو العامة إلى نسختها المقدسة، والأشكال الأساسية لكانط([32]). ما يقوله هيغل بطريقة ٍ تأملية، يشرحه ماركس بشكل ٍ مادي: “ومن ثم أرتد البرجوازيون الألمان الصغار في خوف ٍ من هذه الممارسة الليبرالية البرجوازية النشطة(المقصود: اليعاقبه)، بمجرد أن ظهرت هذه الممارسات بنفسها”([33]).
ووفقا ً لهيغل، اختلف الفرنسيون عن الألمان في حاجتهم الفلسفية لإعادة تشكيل عالمهم السياسي.ذلك أن اتفاقية اليعاقبة، مهما كانت معُيبة، فإنها حاولت إخضاع عالمهم للعقل.وبغض النظر عن الانتقادات التي وجهها هيغل للطابع التجريدي لحقوق الإنسان، فإنه لم يرفضها بالكامل كما فعل بورك Burke، ومايستر Maistre. حيث أن هذه الحقوق كانت مُجردة، لكنها لم تكن خيالية: فهي عبّرت عن الاحتياجات البشرية الحقيقية. حتى أن هيغل امتدح الإلحاد الفرنسي، أو تلك التيارات من التنوير الراديكالي، على أنه “لديه شعور عميق، متمرد، ومعارض للإفتراضات التي لا معنى لها، والإدعاءات الإيجابية للدين”([34]). في الواقع، كان الفلاسفة الفرنسيون “يقفون ضد الإنحرافات، حيث حارب هؤلاء الرجال الشجعان، بعبقرية رائعة، وروح، ودفء، وشعلة من أجل حق البشرية العظيم في الإدراك الذاتي، البصيرة، والقناعة”([35]).
وعلى النقيض من إسرائيل Israel، كان بإمكان هيغل أن يثني على روبسبير، حيث تم “تقديم مبدأ الفضيلة على أنه أعلى مبدأ، ويمكن القول أن الفضيلة مع هذا الرجل كانت مسألة جادة”([36]). في مقاله الأخير عن مشروع قانون الإصلاح الإنجليزي، أقر هيغل بأن دستور اليعاقبة في عام 1793م، كان الأكثر ديمقراطية في العصر، حتى لو كان من المستحيل تنفيذه([37]). ومن ثم، فإن حكمه على الفلسفة الفرنسية والثورة الفرنسية ليس أخلاقيا ً بل جدلي.فهو لا يدين اليعاقبة باعتبارهم سلطويين، لكنه يعتبرهم مرحلة ضرورية في عصر التنوير. فبدون اليعاقبة، كانت مكاسب عصر التنوير- التي تعتبر تقدمية في الثقافة البرجوازية – ستخضع للعرش والكنيسة. وهذا التقدير النقدي للتنوير ولمرحلة اليعاقبة، هي التي بدأت مع ماركس وإنجلز.
[1]) في 13 أكتوبر 1806م، كتب هيغل، “رأيت الإمبراطور – هذه الروح العالمية – يركب حصانا ًخارج المدينة للإستطلاع. إنه لأمر رائع أن نرى مثل هذا الفرد، الذي يتركز هنا في نقطة واحدة، يركب حصانا ً، يصل إلى العالم ويقوده”. أنظر: Hegel: The Letters, trans. Clark Butler and Christiane Seiler (Bloomington: Indiana University Press, 1984), 114.
يشير جوناثان إسرائيل أيضا ً إلى اهتمام هيغل بالثورة الفرنسية خلال تسعينات القرن التاسع عشر: باختصار، “يمكن أن تكون “ثورة العقل” ثورة ذات توجه خارجي، تُحّول القانون والسياسة والمؤسسات والأخلاق، ومن ثم تُحرّض نوعا ً جديدا ً من الأفراد كنتيجة للثورة السياسية والثورة القانونية، وهو الشيء الذي يراه الشاب فيخته Fichte، هيغل، شلينج Schelling، هولدرلين Hölderlin، بأنهم مشغولين بعمق خلال تسعينات القرن التاسع عشر.أنظر: Israel, Democratic Enlightenment, 755–56.
[2]( كما يجادل دومينيك لوسوردو Domenico Losurdo، يدافع هيغل عن مشروعية العالم الحديث ضد المُثل العُليا الرومانسية للماضي. وهذا يتضمن الدفاع عن الصناعة الحديثة في مقابل الاحتفالات المتقشفة القديمة.للإطلاع على مناقشة هيغل لروسو لصالح توسيع الإنتاج لتلبية الاحتياجات البشرية، أنظر: Domenico Losurdo, Hegel and the Freedom of Moderns (Durham, NC: Duke University Press, 2004),187).
[3]) يدرك الناقد المحافظ إريك فوجلين Eric Voegelin، أن فلسفة هيغل على أنها تتويج للحماس الثوري، يقول: “فلسفة هيغل ليست الممارسة السقراطية للموت، فهي تعادل الموت في ساحة معركة الثورة”.أنظر: .” Eric Voegelin, Published Essays, 1966–1985 (Baton Rouge: Louisiana State University Press, 1990). أنظر أيضا ً: Bruno Bauer, The Trumpet of the Last Judgement against Hegel the Atheist and Antichrist: An Ultimatum (Lewiston, NY: Edwin Mellen Press, 1989), 133–41.
[4]( شدد ماركس على أهمية “فينومينولوجيا” هيغل على النحو التالي:”هناك كذبة خفية تكمن في جميع عناصر النقد، التي أعُدت بالفعل ووضعت بطريقة ٍ ترتفع في كثير ٍ من الأحيان فوق وجهات النظر الهيغلية.أنظر: المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844م، “The Economic and Philosophic Manuscripts of 1844,” in MECW, vol. 3, 332.
[5]) وكما قال ماركس في جملة ٍ شهيرة، “من الضروري دائما ً التمييز بين التحول المادي للظروف الاقتصادية للإنتاج، والذي يمكن تحديده بدقة عن طريق العلوم الطبيعية، القانونية، السياسية، أو الدينية، أو الفلسفية، أو الفنية، وبين الأشكال الأيديولوجية التي يصبح فيها الأشخاص واعين لهذا الصراع ويقاتلون لأجله. “Preface to a Contribution of a Critique of Political Economy,” in MECW, vol. 29, 263.
[6]) وبهذه الطريقة أصبحت جدلية المفاهيم نفسها مجرد انعكاس واع ٍ للحركة الجدلية للعالم الحقيقي، وبالتالي تم تحويل جدلية هيغل؛ أو بالأحرى قلب رأسه الذي كان يقف عليه ووضعه على قدميه.أنظر: Friedrich Engels, “Anti-Dühring,” in MECW, vol. 25, 89.
[7]) أنظر: Gillian Rose, Hegel contra Sociology (London: Verso Books, 2009), 187. Georg Lukács, Young Hegel: Studies in the Relations between Dialectics and Economics (London: Merlin Press, 1975), 400.
[8]) لإدانة هيغل لليعاقبة الجدد، والدعوات المجردة للمساواة خلال ثورة يوليو 1830م، أنظر: Political Writings, trans. H. B. Nisbet (Cambridge: Cambridge University Press, 1999), 264.
[9]) Anatole France, The Red Lily, vol. 1 (New York: John Lane, 1910), 95.
[10]) “إن حركة الطبقة العاملة الألمانية هي وريثة الفلسفة الكلاسيكية الألمانية”، لودفيغ فيورباخ، ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية، “Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy,” in MECW, vol. 26, 398.
[11]) أدرك نيتشه أن وراء اللاهوت البروتستانتي لدى هيغل دافعا ً خفيا ً تخريبيا ً، يقول” على المرء فقط أن يقول عبارة “كلية توبنغن” لفهم ما هي الفلسفة الألمانية في الحضيض، فهي لاهوت ماكر. إن سكان منطقة شوابيا Swabians، مثل: هيغل، شلينج، وهولدرلين، هم أفضل الكذابين في ألمانيا، وهم يكذبون ببراءة. من كتاب: ضد المسيح، The Anti-Christ, trans. R. J. Hollingdale (New York: Penguin Books, 1993), 133. ولمعرفة فترة تدريب هيغل على فكر التنوير، أنظر: H. S. Harris, Hegel’s Development: Towards The Sunlight (1770–1801) (Oxford: Oxford University Press, 1972).
[12]( أنظر: Harrison Fluss, “Hegel on Bastille Day,” Jacobin, July 16, 2016.
[13]) إن الشكل الحقيقي الذي توجد فيه الحقيقة يمكن أن يكون فقط في النظام العلمي لها للمساعدة في تقريب الفلسفة من شكل العلم، وإلى الهدف حيث يمكن أن يأخذ عنوان “حب المعرفة”، وأن تكون معرفة فعلية، وهذا ما وضعت نفسي للقيام به. حيث تكمن الضرورة الداخلية في أن تكون المعرفة هي العلم في طبيعته، ولا يقدمه سوى العرض المنهجي للفلسفة.لكن الضرورة الخارجية، بقدر ما يتم استيعابها بطريقة عامة، وترك الأمور العرضية للشخص والدافع جانبا ً، تصبح هي نفسها الداخلية، أو بعبارة أخرى: تكمن في الشكل الذي يحدد الوجود المتسلسل للحظاتها. ولإثبات أن الوقت قد حان للإرتقاء بالفلسفة للعلم، فإن ذلك هو المبرر الوحيد لأي جهد لهذا الهدف، ومن أجل ذلك فإن القيام به يثبت ضرورته، الذي يكون هو في الوقت نفسه.” The Phenomenology of Spirit, trans. A. V. Miller (Oxford: Oxford University Press, 1977), 3–4
[14]) أنظر، هاينريش هاينه: تاريخ الدين والفلسفة في ألمانيا” Heinrich Heine, “The History of Religion and Philosophy in Germany,” in The Romantic School and Other Essays, ed. Jost Hermand and Robert C. Holub (New York: Continuum, 1985), 203–4. حيث كان ماركس قاسيا ً مثل هاينه حول التخلف الألماني، “في السياسة، فكر الألمان بما فعلته الأمم الأخرى”. مساهمة في نقد فلسفة هيغل للحق. “A Contribution to the Critique of Hegel’s Philosophy of Right,” in MECW, vol. 3, 181.
[15]) إن فهم هيغل لعقل التنوير قريب من رأي المؤرخ بيتر جاي Peter Gay، حيث يجادل “أن التنوير هو شكل من أشكال العقل الوضعي الذي حرر نفسه من الميتافيزيقيا العقلانية في القرن السابع عشر، بما في ذلك ميتافيزيقا سبينوزا. أنظر: Peter Gay, The Enlightenment: An Interpretation, vol. 1 (New York: W. W. Norton, 1966). حيث أن علاقة هيغل بسبينوزا معقدة، مقارنة بهذه النسخة الضيقة من التنوير العالقة بين التجريبية والشكلية المنطقية. يعتقد هيغل أن سبينوزا وديكارت هما فلاسفة متفوقان لأنهما يؤكدان الهوية بين التفكير والوجود. كما يؤكد العقل الجدلي السقف الذي يفكر تحته(أو كما يقول سبينوزا، أن ترتيب الأفكار وربطها، هو نفس ترتيب الأشياء واتصالها). في كتاباته الأولى في يينا Jena، يدافع هيغل عن سبينوزا كمفكر جدلي ضد فريدريك جاكوبي Friedrich Jacobi.في وقت ٍ لاحق من حياته المهنية، ينتقد هيغل سبينوزا كمفكر تجريدي وشكلي.للأسف ليس لدى إسرائيل ما يقوله لاحقا ً عن انتقادات هيغل لسبينوزا. لمعرفة تاريخ تطور وجهة نظر هيغل عن سبينوزا والدفاع عنه كمفكر جدلي، أنظر: Harrison Fluss, “The Specter of Spinoza: The Legacy of the Pantheism Controversy in Hegel’s Thought,” Ph.D. diss., Stony Brook University, 2016.
[16]) أنظر: فلسفة التاريخ: The Philosophy of History, trans. J. Sibree (Mineola, NY: Dover, 2004), 442.
[17]) ليست هيمنة الدوافع الاقتصادية في تفسير المجتمع هو الاختلاف الحاسم بين الماركسية والعلم البرجوازي، بل وجهة النظر الكلية. ذلك أن فئة الكل هذه، تعني الهيمنة الشاملة والمحُكمة للكل على الأجزاء، وهي جوهر الطريقة التي تسلمها ماركس من هيغل، وبطريقة أصلية، تحولت لأساس علم جديد.أنظر: .” Georg Lukács, History and Class Consciousness: Studies in Marxist Dialectics, trans. Rodney Livingstone (Cambridge, MA: MIT Press, 1971), 27.
[18]) هذه هي إعادة صياغة هيغل”التنوير نفسه، على الرغم من ذلك، هو الذي يُذكر الأيمان بالجانب الآخر من لحظاته المتقطعة، هو قليل التنوير بحد ذاته.أنظر: Phenomenology, 344. See also Rebecca Comay, Mourning Sickness: Hegel and the French Revolution (Stanford, CA: Stanford University Press, 2011), 64.
[19]) كتاب الفينومينولوجيا، Phenomenology, Page: 324.
[20]( نفسه، ص332.
[21]) العبقرية، الموهبة، القدرات الخاصة عموما ً، تنتمي إلى عالم الواقعية، طالما أن هذا العالم لا يزال يحتوي على جانب كونه مملكة الحيوانات الروحية، حيث يقوم الأفراد، وسط الارتباك والعنف المتبادل، بالغش والصراع على جوهر العالم الفعلي.نفس المرجع السابق.
[22]) “Marx to Engels. 15 April 1869,” in MECW, vol. 3, 263–64.
[23]) الفينومينولوجيا، Phenomenology, 353.
[24]) Young Hegel, 499–500.
[25]) المرجع السابق ، ص500. يشير نيل ديفيدسون في أعمال مختلفة إلى الروابط العميقة بين التنوير الاسكتلندي وهيغل والماركسية ، خاصة عندما يتعلق الأمر بنظريات المجتمع المدني التي وضعها آدم سميث وآدم فيرجسون. لسوء الحظ ، ليس لدينا مساحة لمناقشة التنوير الاسكتلندي بإسهاب ، لكن ديفيدسون يبرز دوره التقدمي للفكر الراديكالي هنا:” كتب لوكاش ذات مرة عن أمل التنوير في أن “الحرية البرجوازية الديمقراطية وسيادة الاقتصاد ستؤدي يومًا ما إلى خلاص البشرية جمعاء.” كما نعلم جيدًا ، لم تفعل ذلك. أعتقد أن أكثر مفكري التنوير الاسكتلنديين إدراكًا – سميث نفسه ، آدم فيرجسون Adam Ferguson ، جون ميلار John Millar – كانوا على علم بذلك وأن الوعي مسؤول عن الغموض المدروس تجاه “ الرأسمالية الموجودة بالفعل ” عندما ظهر في نهاية القرن الثامن عشر . لإعادة صياغة ويليام موريس ، تبين أن الشيء الذي حاربوا من أجله ليس ما قصدوه ، وكان على الآخرين منذ ذلك الحين أن يقاتلوا من أجل ما قصدوه تحت اسم آخر.
أنظرWe Cannot Escape History: States and Revolution (Chicago: Haymarket Books, 2015), 55.
[26]) Introduction to Marxist Economic Theory (New York: Pathfinder Books, 1970), 10.
[27]( لمعرفة المزيد عن الاغتراب الماركسي، أنظر: “The Economic and Philosophic Manuscripts of 1844,” in MECW, vol. 3, 274.
[28]( أنظر: Hegel and the Human Spirit: A Translation of the Jena Lectures on the Philosophy of Spirit (1805-6) with Commentary, trans. Leo Rauch (Detroit: Wayne University Press, 1983), 155.
[29]( يطيح الناس بالطغيان لأنه مكروه، حقير، وما إلى ذلك، ولكن في الواقع يتم إسقاطه لأنه لا لزوم له. إن ذاكرة الطغيان مكروهة. ومع ذلك، في هذه الحقيقة بالذات، هو أيضا ً روح متيقنة من نفسها، الذي، مثل الله، يتصرف فقط من أجل نفسه، ويتوقع الجحود من شعبه. إذا كان حكيما ً، فإنه سوف يتخلص من استبداده عندما يكون غير ضروري. وبهذه الطريقة، مع ذلك، فإن ألوهيته ليست أكثر من ألوهية الحيوان، الضرورة العمياء، التي تستحق أن تُمقت كشر. تصرف روبسبير بهذه الطريقة، تركته سلطته لأن الضرورة تركته، وبالتالي أطيح به بالقوة. يحدث ما يلزم، ولكن كل جزء من الضرورة مخصص عادة للأفراد فقط. واحد هو المتهم والمدافع، والآخر قاضي، والثالث الجلاد، ولكن كل شيء ضروري.نفس المرجع، ص157.
[30]) Ninety-Three (New York: Harper & Brothers, 1874), 118.
[31]) أنظر: Maximilien Robespierre, “Extracts from Speech of 8 Thermidor Year II,” Virtue and Terror, ed. Jean Ducange (London: Verso, 2007), 136.
[32]) خلال فترة هيغل، اعتبر الثوريون فلسفة كانط بمثابة منزلا ً وسطا ً بين المحافظين واليعاقبة.في الواقع، بينما انتقد ماركس وإنجلز كانط، كانا ينتقدانه عادة من اليسار. وضع إنجلز نفسه كانط ضمن أسلاف الثورية الإشتراكية الحديثة، يقول”نحن الاشتراكيون الألمان فخورون بأننا نتيع أصلنا ليس فقط من سان سيمون Saint Simon، وفورييه Fourier ، وأوين Owen، ولكن أيضا ً من كانط، فيخته، وهيغل”. من مقدمة: “Preface to the First German Edition of Socialism: Utopian and Scientific,” in MECW, vol. 24, 459. ومن خلال الاعتراف بأن فلسفة كانط العملية هي نسخة “مركزية” من روسو، لا يزال بإمكاننا رؤية وميض من راديكالية التنوير الفرنسية في كانط. كان واضحا ً هذا بشكل ٍ خاص لآبي بارويل Abbé Barruel في مذكراته عن اليعاقبة، حيث يتنبأ بشكل ٍ غامض كيف تمهد الجامعة الكانطية التي تبدو غير ضارة الطريق لفلسفة ثورية في المستقبل. لم يكن يعرف اسم هذه الفلسفة، ولكن يبدو تقريبا ً كما لو أن اليسوعي ذو العقلية التآمرية توقع وصول الهيغليين، يقول” زملاء كانط في الجامعات لا يعلمون مبادئه ببرودته، حيث يصبح التلامذة عنيفين، مع ابتسامة اليعاقبة، ومع انتشار النظام، تتحد ذرية هؤلاء المعلمين ويشكلون تحالفات في مساكنهم المظلمة.يجب علينا أن نوجه انتباهنا إلى نوع ٍ جديد من اليعاقبة الذين يحرزون تقدما ً مذهلا ً في ألمانيا.هؤلاء هم تلاميذ الدكتور كانط، الذي قاموا في الظلام، ومن فوضى تقسيماته، وشرعوا في الكشف عن اسراره الكوزموبوليتانية. Abbé Barruel, Memoirs Illustrating the History of Jacobinism, part 3, vol. 3: The Antisocial Conspiracy (New York: Isaac Collins, 1799), 318.
[33]) أنظر: الأيديولوجيا الألمانية، “The German Ideology,” in MECW, vol. 5, 195.
[34]) محاضرات في فلسفة التاريخ، Lectures on the History of Philosophy, vol. 3, trans. E. S. Haldane (London: Routledge & Kegan Paul, 1955), 384.
[35]) نفسه، ص390.
[36]) فلسفة التاريخ، Philosophy of History, 480
[37]) أنظر: Losurdo, Hegel and the Freedom of Moderns, 87.
المصدر: https://www.leftvoice.org/hegel-enlightenment-and-revolution