شَكْل العمل في المستقبل
الثورة الرقمية تعيد تشكيل القوى العاملة حول العالم بثلاث طرق.
في العام الماضي، شرع سباستيان ترُون رائد الأعمال ومؤسس ورئيس شركة أوداسيتي Udacity -وهي شركة تعليمية- في زيادة نسبة المبيعات، بواسطة الذكاء الاصطناعي. تُقدم شركة أوداسيتي دورات تعليمية عن طريق الشبكة العنكبوتية، وتمنح فرص عمل لأسطولاً من موظفي المبيعات الذين يتلقون الأسئلة المطروحة من الطلاب ومن ثم يجيبون عليها من خلال إجراء المحادثات فيما بينهم على شبكة الإنترنت.
بالإضافة إلى ذلك، فقد عمل ترُون – الذي يُدير أيضاً مختبراً لعلوم الكمبيوتر بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا – مع واحداً من طُلابه بقصد جمع النصوص الموجودة في تلك المُحادثات، مع التركيز على المحادثات التي نتج عنها تسجيل الطلاب في إحدى الدورات التدريبية.
وقد زوَّد ترون والطالب نظاماً لتعلم الآلة، يُمكن لهذا النظام أن يستخلص الإجابات الأكثر فعالية لمجموعة متنوعة من الأسئلة الشائعة عن طريق البيانات التي حصلوا عليها.
ثم بعد ذلك، وضعا موظف المبيعات الرقمي ذلك جنباً إلى جنب مع زملائه من البشر. وعندما كان يأتي استفسار عن أمر ما، كان المساعد الرقمي يبحث في الأجوبة ويقترح رداً مُناسباً، ويستطيع موظف المبيعات “البشري” تهيئته حسب الطلب إذا لزم الأمر.
كان هذا المساعد برنامجاً نصياً للمبيعات، ما يميزعه أنه برنامجاً تفاعلياً وآنيًّا، حيث تدعم مجموعات من البيانات كلَّ جزء من أجزاء الخطاب التجاري. وبالفعل نجح الامر، حيث تمكن فريق العمل من التعامل مع أضعاف عدد العملاء المحتملين بشكل فوري وسريع وتحويل نسبة عالية جداً من إلى مبيعات.
وصرح ترُون أن النظام قام على أساس تجميع أفضل مهارات موظفي المبيعات في الشركة ومنحها للفريق برُمَّته. يرى ترُون أن هذه العملية خطوة ثورية عظيمة. ويعقب قائلاً:
“مثلما أسهَم المحرك البخاري والسيارة في تعزيز قوتنا العضلية، يمكن أن يؤدي ذلك أيضاً إلى تعزيز قوتنا العقلية، وتحويلنا إلى بشر خارقين من الناحية الذهنية”.
لقد شهد العقد الماضي تطورات هائلة في التقنيات الرقمية، وأهمها الذكاء الاصطناعي، وعلم الروبوت، والحوسبة السحابية، وأساليب تحليل البيانات، والهواتف النقالة. وعلى مدار العقود القادمة، سوف يكون لتلك التقنيات دور كبير في تغيير كل الصناعات تقريبًا.. الزراعة، والطب، والصناعة، والمبيعات، والتمويل، والمواصلات؛ وستقوم بإعادة تشكيل الأساليب المتبعة العمل.
يقول إريك برينولفسون – مُدير مبادرة الاقتصاد الرقمي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كامبريدج -:
“سوف نستغني عن خدمات ملايين الوظائف، وسيحل محلها ملايين الوظائف الجديدة، تلك الوظائف ستكون لها أهمية كبيرة، بالإضافة إلى تغيير عدد أكبر بكثر من الوظائف الأخرى”
يُضيف برينولفسون:
“التكنولوجيا الآن تتسارع قُدمًا، وهذا أمر جيد بصورة أو بأخرى، ولكننا نواجه مشكلة كبيرة في فهْم مدلولات ذلك. ونحن بحاجة كبيرة وفرصة هائلة لدراسة التغيرات الجديدة”
لقد بدأ الباحثون في الوقت الحاضر بالقيام بذلك فعليًّا، وتقاوِم الأدلة الناشئة التفسيرات المبسطة، ومن المؤكد أن التطورات الجارية في التقنيات الرقمية سوف تؤدي إلى تغيير ملحوظ في شكل العمل الحالي بوسائل وأساليب معقدة وغير واضحة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يوفر فرصًا ويزيد المخاطر في آن واحد بالنسبة للعمال.
الحاجة إلى مزيد من الأبحاث
ما زال العلماء حتى هذه اللحظة يصارعون من أجل الوصول إلى الكيفية التي تُمكن التكنولوجيا من تغيير أماكن العمل.
يطرح عالَم العمل المتغير أمام العلماء عددًا لا نهائي من الموضوعات المطلوب سبر أغوارها. ويوجد اتجاهان آخران من الاتجاهات الخاصة بأماكن العمل، والكثير من الأسئلة البحثية التي يطرحها هذان الاتجاهان، والتي لا زالت بلا إجابة:
كيف ستكون استجابة العمال للأشكال الجديدة مِن المتابَعة والمراقَبة؟
سابقاً كان أصحاب الأعمال يظلوا لفترات طويلة يراقبون موظفيهم أثناء تأدية العمل، أما في الوقت الراهن فمراقبة أماكن العمل تدخل حقبة جديدة.
فعلى سبيل المثال، الآن يمكن للشركات تسجيل عدد نقرات موظفيها على لوحة المفاتيح، والتقاط الصور عن بُعْد لشاشات أجهزة الحاسوب الخاصة بهم، أو استخدام مجسّات الحركة، أو القياسات المترية، أو رقاقات التعريف بالترددات اللاسلكية (RFID)، ونظام تحديد المواقع العالمي؛ لتتبع نشاطاتهم وتحركاتهم، حتى بعد انتهاء ساعات العمل، لكنْ ليس من الواضح حتى الآن ما إذا كان العمال سوف يُبدون مقاوَمة واسعة النطاق في وجه الاستخدام المتزايد لتكنولوجيا المراقبة، أو سيتمكنون من وَضْع حد فاصل لتتبُّع تحركاتهم. ومن هُنا يُطرح تساؤل جديد.. هل يمكن أن ينتج عن الأشكال الجديدة من المراقَبة نتائج عكسية في صور أقل وضوحًا، مثل تقويض الثقة، أو هدم الروح المعنوية، أو وأد الأفكار الإبداعية؟
كيف ستؤثر التقنيات الخاصة بتعزيز قدرات البشر على صحة العُمال وسلامتهم؟
بداية من أدوية تنشيط الذهن، إلى “الهياكل الخارجية” الاصطناعية المصمَّمة لجعل الأعمل البدنية أكثر أماناً وسهولة، بدأت تقنيات تحسين الأداء البشري تشق طريقها إلى أماكن العمل.
يُمكن لتلك التقنيات في كثير من الأحيان أن تساعد في الحفاظ على صحة العُمال، وضمان سلامتهم. قد يُساعد دواء مثل المودافينيل في تعزيز الإنتباه لسائقي المسافات الطويلة وتجنب الحوادث، وكذلك يمكن للهياكل الخارجية الحد من إرهاق المفاصل والعضلات. ولكن الباحثين لا يعرفون ما إذا كان استخدام تلك التقنيات على المدى الطويل يمكن أن يسبب أضرار للعمال، أم لا، سواء بشكل مباشر، أم غير مباشر.
وسنطرح فيما يلي ثلاثة أسئلة مهمة بشأن مستقبل العمل في عالم رقمي، وكيف بدأ الباحثون حاليًّا في الإجابة عن تلك الأسئلة.
هل ستحل الآلات محل العمال المهرة؟
سمحت التطورات التكنولوجية للآلات بمباشرة المهام البسيطة والمتكررة والروتينية في الموجات السابقة من الأتمتة (الإستعاضة عن الإنسان بالآلة). من مميزات تعلُّم الآلة أنه يُتيح إمكانية أتمتة المزيد من المهام الأكثر تعقيداً، وغير الروتينية.
يقول برينوفلسون:
“على مدار الجزء الأكبر من الأعوام الأربعين أو الخمسين الماضية، كان من المستحيل أتمتة مُهمّة، قبل أن نفهمها فهمًا جيدًا للغاية. أمّا في وقتنا الحاضر، فلم يعد ذلك صحيحًا، فالآلات الآن يمكنها أن تتعلم بمفردها”.
تستطيع أنظمة تعلُّم الآلة في الوقت الحالي أن تترجم الكلام، وتضع الوسوم على الصور، وتُحدد الأسهم المالية، وتكتشف محاولات الغش التجاري، وتشخيص الأمراض، وه الأمر الذي من شأنه أن يجعلها تُنافس أداء البشر في الكثير من المجالات الجديدة والمُثيرة للدهشة.
يقول ترُون:
“في واقع الأمر، يمكن للآلة إنجاز وفحص عينات من البيانات، تتجاوز بدرجة كبيرة جدًّا ما يستطيعه البشر”
قاد ترُون في وقت سابق من هذا العام فريقاً أوضح أنه يُمكن استخدام ما يقرب من 129 ألف صورة للإصابات الجلدية؛ لتمكنوا من تدريب الآلة على تشخيص مرض سرطان الجلد بدرجة عالية من الدقة تُماثل قدرة الأطباء على تشخيص المرض.
أثارت تلك التطورات مخاوف من أنْ تحلّ تلك الأنظمة محل العنصر البشري في مجالات كانت تبدو في وقت ما معقدة جدًّا بدرجة لا تجعلها قابلة للأتمتة. وقد بدت التقديرات الأولية مفزعة. ففي عام 2013، قام الباحثون في برنامج “أكسفورد مارتين للتكنولوجيا والتوظيف” في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة بمراجعة التطورات والتحديات طويلة الأمد في تعلُّم الآلة وعلم الروبوتات المتنقلة؛ لتقدير مدى قابلية 702 وظيفة مختلفة للأتمتة. كانت النتيجة المذهلة التي توصَّل إليها الباحثون أن 47% من الوظائف في الولايات المتحدة كانت معرَّضة بشدة لخطر التحول إلى الحوسبة، وكانت الوظائف الأكثر عرضة لهذا التحول في مجالات النقل والمواصلات، واللوجستيات، والإنتاج، والدعم الإداري. كان ذلك يعني إثارة المتاعب لبعض العمال، مثل سائقي التاكسي، وموظفي السكرتارية القانونية، وموظفي السجلات.
ومنذ ذلك الحين، رأى باحثون آخرون أن نسبة 47% مرتفعة بشكل مُبَالَغ فيه، إذا وضعنا في الاعتبار تنوع المهام التي يقوم بأدائها العاملون في كثير من الوظائف.
يقول أولريتش زيران – كبير الباحثين بمركز البحوث الاقتصادية الأوروبية في مانهايم بألمانيا -:
“عندما تتعمق في المسألة، وعندما تنظر في هيكل المهام، الخاص بما يقوم به الأشخاص فعليًّا في عملهم، سوف تجد أن تلك التقديرات تنخفض عن تلك النسبة كثيرًا”.
على سبيل المثال.. أفادت دراسة أكسفورد أن الموظفين الكتابيين في مجالات مسك الدفاتر، والمحاسبة، والمراجعة يواجهون خطر الأتمتة بنسبة 98%، ولكن عندما قام زيران وزملاؤه بتحليل بيانات استقصائية بشأن ما يقوم به العاملون في تلك الوظائف في حقيقة الأمر، وجد الفريق أن 76% منهم يعملون في وظائف تتطلب عملًا جماعيًّا، أو تتضمن اتصالًا مباشرًا.. فتلك المهام ليس من السهل إخضاعها حاليًّا – على الأقل – للأتمتة. وعندما قام المؤلفون بتوسيع نطاق النهج الذي اتبعوه، ليشمل وظائف ومهنًا أخرى؛ وجدوا أرقامًا وإحصائيات أقل إفزاعًا فيما يخص عدد الوظائف المعرَّضة للخطر في البلدان التي أُجريَ فيها المسح الاستقصائي، وعددها 21 دولة. في الولايات المتحدة، كان نصيب العمال المعرَّضين لخطر الأتمتة بدرجة عالية يبلغ 9% فقط، وكان الرقم يتفاوت بين الحد الأدنى المسجَّل في كوريا الجنوبية وإستونيا بنسبة (6%)، والحد الأعلى المسجل في ألمانيا والنمسا بنسبة (12 %)، (انظر: “تأخير انتفاضة الروبوتات”).
يعمل برينولفسون حاليًّا مع توم ميتشيل – عالِم الكمبيوتر بجامعة كارنيجي ميلون في بيتسبرج بولاية بنسلفانيا – على التعمق في تأثير تعلُّم الآلة. قام الباحثان بتطوير قاعدة؛ لتحديد السمات والخصائص التي تجعل مهام معينة قابلة تحديدًا لذلك النهج. على سبيل المثال.. تتميز أنظمة تعلُّم الآلة بالكفاءة في المهام التي تتضمن ترجمة مجموعة واحدة من المدخلات – مثل صور إصابات جلدية – إلى مجموعة أخرى من المخرَجات، مثل تشخيص مرض السرطان. ومن المرجح للغاية استخدام تلك الأنظمة في أداء المهام التي تكون فيها مجموعات البيانات الرقمية الضخمة المطلوبة لتدريب النظام متاحةً ومتوفرة بسهولة. يتصفح برينولفسون وميتشيل حاليًّا العديد من قواعد البيانات الوظيفية الضخمة؛ لتحديد مدى التوافق بين مجموعة متنوعة من المهام الخاصة بأماكن العمل، وتلك المعايير، وغيرها.
وحتى مع توفُّر تلك الأنواع من التحليل في متناول اليد، فإن تحديد النتائج المترتبة عليها بالنسبة إلى سوق العمل عملية معقدة، فليس معنى أن هناك مهمة معينة يمكن أن تخضع للأتمتة أن ذلك سوف يحدث بالفعل، فغالبًا ما تحتاج التقنيات الجديدة إلى إجراء تغييرات تنظيمية مكلفة، ومهدرة للوقت. ويمكن أن تؤدي المعوقات القانونية والأخلاقية والمجتمعية إلى تأخير أو عرقلة نشر تلك التقنيات.
يقول فيديريكو كابيتزا – الذي يدرس المعلوماتية في مجال الرعاية الصحية بجامعة ميلانو-بيكوكا في إيطاليا -:
“الذكاء الاصطناعي ليس منتَجًا متوفرًا في الأسواق بعد”
حيث يتطلب تنفيذ أنظمة تعلُّم الآلة الطبية كلًّا من الاستعداد التقني، والتهيؤ لتخصيص آلاف من ساعات العمل لكل فرد؛ بما يلزم لجعل تلك الأنظمة قادرة على العمل، حسبما يقول كابيتزا، ناهيك عن الحصول على تأييد مقدمي الرعاية، والمرضى.
تشير الأبحاث إلى أن الأيدي العاملة تتميز بالمرونة في التكيف مع التقنيات الجديدة.. ففي النصف الثاني من القرن العشرين، حثت عملية زيادة الأتمتة على التغيير والانتقال ما بين الوظائف، حيث بدأ الموظفون يؤدون مهام أكثر تعقيدًا وغير روتينية. وفي بعض الحالات المستقبلية، يمكن لتلك التغيُّرات أن تكون إيجابية؛ فإذا بدأت الأنظمة المؤتمَتة في إجراء التشخيصات الطبية الروتينية؛ فيمكن أن تمنح الأطباء وقتًا أطول يقضونه في التفاعل، والتواصل مع المرضى، والعمل في الحالات المعقدة.
يقول ميتشيل:
“إن حقيقة أن أجهزة الكمبيوتر قد أصبحت في الوقت الراهن بارعة في التشخيصات الطبية لا تعني أن الأطباء سوف يختفون كَفِئَةٍ وظيفية، بل ربما يعني ذلك أنه سوف يكون لدينا أطباء أفضل”.
وفي الواقع، ربما يجد كثير من الناس أنفسهم يعملون جنبًا إلى جنب مع أنظمة الذكاء الاصطناعي، مثلما حدث مع موظفي المبيعات في شركة “أوداسيتي”، وذلك بدلًا من أن تحلّ تلك الأنظمة محلهم. فعلى سبيل المثال.. لم تصبح السيارات ذاتية القيادة قادرة بَعْدُ على اجتياز جميع المواقف، ولذا.. تقوم شركة تصنيع السيارات “نيسان” بتطوير حلّ باستخدام القوى البشرية، فإذا صادفت واحدة من السيارات ذاتية القيادة موقِفًا لا تستطيع فهمه، مثل أشغال الطريق، أو وقوع حادث مروري؛ فسوف تتصل بمركز للقيادة عن بُعْد، بحيث يمكن أن يتولى “مدير حركة” بشري زمام القيادة؛ حتى تتخطى السيارة منطقة الاضطراب تلك.
يقول بيترو ميكيلوتشي – المدير التنفيذي لمعهد الحوسبة البشرية Human Computation Institute في فيرفاكس بولاية فيرجينيا -:
“تفكِّر الآلات – في الأساس – بطريقة مختلفة تمامًا عن البشر، ولكل منهما نقاط القوة الخاصة به. لذا.. فإن هناك تزاوجًا طبيعيًّا حقيقيًّا بين الآلات، والبشر”.
هل سيزيد اقتصاد العربة من استغلال العمال؟
المرونة، والتنوع، والاستقلالية.. تلك هي الوعود التي يبشِّر بها اقتصاد العربة gig economy المتنامي، الذي فيه يَستخدِم العمال منصّات على شبكة الإنترنت؛ للعثور على وظائف صغيرة قصيرة الأجل. إنّ هذا النوع من العمل الحر، المتاح حسب الطلب، الذي يتم بوساطة رقمية، يمكن أن يتخذ أشكالًا متنوعة، بداية من القيادة لدى شركة خدمات سيارات الأجرة “أوبر” Uber، إلى إنجاز المهام الصغيرة، بما فيها إجراء استطلاعات الرأي، وترجمة بضع جمل من نَصّ معين، أو وضع وَسْم على صورة بعينها، على منصة ضخمة قائمة على حشد المصادر، مثل منصّة Amazon Mechanical Turk.
تتيح تلك المنصّات الرقمية للعمال إنجاز المهام من أي مكان، بمعنى أنه يكون بمقدور تلك المنصّات إزالة بعض العوائق الجغرافية، التي تَحُول دون الحصول على وظائف جيدة.
يقول مارك جراهام، عالِم الجغرافيا الرقمية بجامعة أكسفورد:
“لم يعد الشخص القاطن في نيروبي بكينيا مقيدًا بسوق العمل المحلي”.
أمضى جراهام وزملاؤه عدة سنوات في دراسة الاقتصاد الرقمي حسب الطلب في منطقة جنوب شرق آسيا، والدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى. أجرى الباحثون مقابلات شخصية مباشرة مع أكثر من 150 شخصًا يعملون في إطار اقتصاد العربة في تلك المناطق، وقاموا باستطلاع آراء ما يزيد على 500 شخص، وتحليل مئات الآلاف من التعاملات على منصّات العمل على شبكة الإنترنت.
تبيِّن النتائج المبدئية أن تلك الوظائف تفي بالفعل باحتياجات بعض العاملين في ذلك المجال؛ حيث قال 68% من المشاركين في استطلاع الرأي إنّ ذلك العمل يشكل جزءًا بالغ الأهمية من الدخل المعيشي لأُسَرهم. كذلك أتاحت المنصّات الرقمية وظائف لمجموعة متنوعة من الأشخاص – منهم بعض نساء يتحمّلن الرعاية الأولية، ومهاجرون لا يحملون تصاريح عمل – الذين قالوا إن فُرَصهم في التوظيف كانت محدودة، لولا ذلك.
يقول جراهام:
“ثمة بعض الأشخاص الذين ازدهرت أحوالهم المالية بالفعل، من خلال هذه المنظومة؛ ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الجميع”.
هناك زيادة واضحة في المعروض من الأيدي العاملة في اقتصاد العربة، مما يؤدي ببعض العاملين إلى تخفيض أسعارهم إلى أقل مما يمكن اعتباره سعرًا عادلًا. وهناك كثيرون يعملون لساعات طويلة بسرعات عالية، ووفقًا لمواعيد نهائية مضغوطة وصارمة. يقول جراهام:
“يعيش هؤلاء الأفراد حياة مزعزعة، وغير مستقرة بشدة، ومن ثم تجدهم قلقين مِن رَفْض أي مهمة عمل تُعرَض عليهم. تحدثنا إلى عدد ليس بالقليل، منهم مَن قاموا بالسهر لمدة 48 ساعة متواصلة في العمل؛ من أجل إتمام العمل الذي تعاقدوا عليه في موعده، وبإتقان”.
يظل هناك أيضًا جانب ضخم من عدم المساواة من الناحية الجغرافية. ففي دراسة أُجريت في عام 2014، قام جراهام وعدد من زملائه بتحليل أكثر من 60 ألف صفقة ومعاملة نُفِّذت على منصة كبيرة واحدة في مارس 2013. وجد الباحثون أن غالبية المهام قام بإدراجها أرباب عمل في دول مرتفعة الدخل، وأنجزها عاملون ينتمون إلى بلدان منخفضة الدخل، أو متوسطة الدخل.
ويبدو أن الأشخاص الذين يعيشون على مقربة من الأماكن التي تكون فيها الوظائف يتمتعون بميزة أفضل؛ فهم يحصلون على نسبة كبيرة من الأعمال المطلوبة، ويجنون دخلًا أعلى بكثير – 24.13 دولار أمريكي للساعة في المتوسط – من العمال الأجانب الذين يجنون 11.66 دولار في الساعة، نظير القيام بعمل مماثل. وهناك بلدان منخفضة أو متوسطة الدخل اجتذبت عددًا من الوظائف، يفوق بكثير جدًّا ما حصلت عليه دول أخرى؛ وتأتي الهند والفلبين على رأس قائمة الدول المستقبِلة للوظائف، وذلك في تحليل جراهام.
يمكن أن تفسِّر المخاوف العملية بعضًا من تلك الاختلافات وأوجه التفاوت، فربما يعزف بعض أرباب الأعمال عن توظيف العمالة الأجنبية، بسبب مسائل معينة، مثل اختلاف اللغة والمنطقة الزمنية، وربما يكون تاريخ الهند والفلبين المعروف في أعمال التعهيد قد ساعد على جعل العمال هناك أكثر جاذبية لأصحاب الأعمال، ولكنّ التمييز، سواء أكان بشكل واع، أم غير واع، يمكن أن يكون له دور أيضًا. فقد وجد فريق جراهام بعض قوائم المهام التي تعلِن صراحة أن الأشخاص الذين ينتمون إلى بلدان معينة لا ينبغي لهم التقدم لِشَغْل الوظيفة.
يقول محمد أمير أنور، أحد الباحثين الذين يعملون مع جراهام:
“رغم أن تلك التقنيات قد تمكنَتْ من الربط بين مناطق مختلفة من العالم، إلا أنها لم تستطع تجاوز تلك الأنواع من الاختلافات بقَدْر ما كنا نأمل”.
وثمة دراسة إثنية ضخمة أخرى عن العمالة الحرة، بدأت تكشف مزيدًا من المعلومات عن كيفية إنجاز ذلك العمل. كما توِّفر الدراسة بعض الإشارات بشأن ما يحتاجه العاملون، لتحقيق النجاح في ذلك المجال. في الفترة بين عامي 2013، و2015، قام اثنان من كبار الباحثين بشركة “مايكروسوفت للأبحاث” Microsoft Research – وهما عالمة الأنثروبولوجيا ماري جراى في كمبريدج بولاية ماساتشوستس، وعالِم الاجتماع الحاسوبي سيدهارت سوري في نيويورك سيتي – بإجراء دراسة استقصائية، شملت ما يقرب من ألفي شخص يعملون في مجال اقتصاد العربة في الولايات المتحدة والهند، وأجريا مقابلات مطوَّلة مع مائتي شخص تقريبًا منهم.
مِن بين أوائل الأشياء التي اكتشفها الباحثان أنه بالرغم من تصوير العمال في اقتصاد العربة على أنهم غالبًا ما يتمتعون بالاستقلالية والعمل الذاتي، إلا أنّ كثيرًا منهم كانوا في الواقع يتواصلون ويتعاونون مع بعضهم بعضًا. كان هؤلاء العمال يساعدون بعضهم بعضًا في إنشاء الحسابات وملفات التعريف، ويتشاركون المعلومات الخاصة بأصحاب الأعمال من ذوي السمعة الحسنة، والوظائف الجديدة المعلَنة، كما كانوا يقدِّمون الدعم الفني والاجتماعي. يبذل هؤلاء العاملون أيضًا جهدًا دؤوبًا، لإضافة شكل من العلاقات الإنسانية داخل تلك المنظومة، كما يقول سوري، ويفعلون ذلك على حساب وقتهم الخاص، و”لذا.. مِن الواضح أنهم يقدِّرون هذا بلا ريب”.
وفي دراسة متابَعة، يغلب عليها الطابع الكمي – قام الباحثون فيها بوضع خريطة للروابط والعلاقات الاجتماعية بين أكثر من 10 آلاف عامل على منصة Amazon Mechanical Turk – وجدت جراى وسوري وزملاؤهما أن ذلك النوع من التعاون يمكن أن تكون له مردودات وفوائد حقيقية. فالعمال الذين كانت لهم علاقات بشخص واحد على الأقل على المنصة كانت معدلات قبولهم في الوظائف أعلى، وكانت إمكانية حصولهم على وضع متميز أرجح، كما كانوا يعلمون بشأن المهام الجديدة بدرجة أسرع من هؤلاء الذين لا يمتلكون صلات، أو علاقات.
تقول جراى إنه لكي يصبح الأشخاص منتجين، فلقد
“اتضح أنهم بحاجة فعلًا إلى التعاون. إنهم يحتاجون بعضهم بعضًا”.
هل يمكن سد فجوة المهارات الرقمية؟
ظل الخبراء على مدار أعوام يدقُّون أجراس الخطر بشأن النقص المرتقَب في المهارات الرقمية. حذَّر الخبراء من وجود عدد قليل للغاية من العاملين المدربين، الذين يمكنهم شغل الوظائف ذات التقنية العالية، وأن نقص المعرفة الرقمية الأساسية يمكن أن يمنع العاملين في بعض المناطق الجغرافية، أو المجموعات السكانية من تحقيق الازدهار في الاقتصاد الرقمي. واستجابة لذلك.. انتشرت برامج إبداعية عديدة، لتعزيز المعرفة والمهارات الرقمية في شتى أنحاء العالم. وقد بدأت الأبحاث في الوقت الراهن في تقديم بعض الإشارات والتلميحات بشأن ما يمكن أن ينجح من تلك البرامج، وما لا يستطيع تحقيق النجاح؛ وكذلك بشأن الحالات التي ربما يحدث فيها قصور في التدريب على المهارات.
ومع ذلك.. فقد كان هناك بعض النجاحات الموثَّقة التي تحققت. فمنذ ما يزيد على عقد من الزمن، بدأت “وكالة مشروعات أبحاث الدفاع المتقدمة” DARPA بالولايات المتحدة تطوير نظام شخصي، وتفاعلي قادر على التكيف باسم “المعلِّم الرقمي”، بهدف تدريب المجندين الجدد في البحرية الأمريكية على وظائف فنيين في مجال تقنية نظم المعلومات. كان المتدربون يعملون مع ذلك المعلِّم بشكل فردي، ويتمُّون دروسًا في موضوعات مختلفة، ويقومون بحل المشكلات ذات الصلة بتلك الموضوعات. كان النظام يمنح الأولوية للتعلم النظري والتفكير، ويحثّ الطلاب بشكل دوري على مراجعة ما تعلموه. وعندما كان نظام التدريس يرى أن الطالب قد أجاد المادة العلمية، فإنه ينتقل مباشرة إلى الموضوع التالي.
وفي دراسةِ مراجعة أُجريت على البرنامج في عام 2014، وجد الباحثون بمعهد التحليلات الدفاعية في ألكساندريا بولاية فيرجينيا أن أداء 12 مجندًا أتموا الدورة الدراسية التي تستمر 16 أسبوعًا قد فاق أداء خريجي البحرية الأمريكية، الذين تلقوا تدريبًا على تقنية المعلومات بالأسلوب التقليدي القائم على قاعات الدرس، الذي كان يستغرق مدة أطول من ضعفَي مدة برنامج DARPA، بل إن المجندين الاثني عشر تفوقوا بجميع المقاييس تقريبًا على مجموعة من كبار الفنيين في تقنية المعلومات البحرية، كانوا جميعًا يمتلكون خبرة تقترب في المتوسط من 10 سنوات.
يقول دِكستر فلِتشر، الذي شارك في دراسة المراجعة:
“إذا كنا نستطيع تحقيق ذلك، فلماذا لا نقوم بالمزيد؟ لماذا لا نبدأ في تطبيق ذلك بجدية على تدريب القوى العاملة؟”
وفي دراسةِ متابعة، وجد فلِتشر أن إصدارًا معدلًا بشكل بسيط من برنامج “المعلِّم الرقمي” قد أثمر عن نتائج مشابِهة، عندما استُخدم في تدريب 100 من العسكريين المحنكين على وظائف مدنية في تقنية المعلومات. ففي غضون ستة أشهر من إتمام البرنامج، حصل 97% من هؤلاء العسكريين المحنّكين – الذين كانوا يرغبون في العمل في وظائف في قطاع تقنية المعلومات – على الوظائف التي أرادوها، وكان متوسط الراتب السنوي الذي يحصلون عليه من تلك الوظائف مساويًا لراتب شخص يمتلك خبرة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات في المجال.
كما جرى تشجيع العديد من الاستراتيجيات الأخرى؛ من أجل تحسين المهارات الرقمية والتوظيف، بما في ذلك الدورات الضخمة المفتوحة عبر الإنترنت (MOOCs) – وهي مجموعة من الدروس ذات المستوى الجامعي، يتم إلقاؤها عبر شبكة الإنترنت – ومعسكرات تدريب المستجدين على البرمجة coding bootcamps؛ وهي دورات تدريبية مكثفة وقصيرة، يتعلم فيها الدارسون أسس البرمجة الحاسوبية.
في دراسة تحليلية أُجريت في عام 2016 على 1400 من المستفيدين من الدورات الضخمة المفتوحة عبر الإنترنت في كولومبيا، والفلبين، وجنوب أفريقيا، توصل الباحثون إلى أن 80% من الطلاب كانوا ينتمون إلى بيئات منخفضة الدخل، أو متوسطة الدخل، وأن 41% منهم كانوا لا يجيدون سوى مهارات الكمبيوتر الأساسية فقط. كان أكثر من نصف عدد الدارسين (56%) من الإناث، وكان موضوع علوم الحاسب هو الأكثر شعبية من بين الدورات الضخمة المفتوحة عبر الإنترنت.
تقول ماريا جاريدو، المشارِكة في وضع التقرير الخاص بكلية المعلومات في جامعة واشنطن:
“إن النساء تنخرطن بالفعل في الدورات الضخمة المفتوحة عبر الإنترنت في المناطق التي يعانين من ضعف تمثيلهن فيها”.
غير أن جودة تلك البرامج يمكن أن تتباين بشدة، ولم يخضع منها للتقييم الدقيق إلا قلة قليلة. ويمكن أن تكون معسكرات تدريب المستجدين على البرمجة باهظة التكلفة، وتتطلب استثمارات كبيرة في الوقت، كما أنها توجد أساسًا في البيئات التكنولوجية والحضرية. ولذا.. تبقى هناك فجوات في الإنجازات؛ ففي دراسة أُجريت في عام 2015 على أكثر من 67 ألف طالب من الملتحِقين بالدورات الضخمة المفتوحة عبر الإنترنت، وجد باحثان من جامعة ستانفورد أن الطلاب من كلا الجنسين، الذين ينتمون إلى قارات أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، كان من غير المرجح وصولهم إلى محطات رئيسة معينة في تلك الدورات، مثل مشاهدة أكثر من 50% من المحاضرات، كما كانوا يحصلون على درجات أقل من أقرانهم من الطلاب الذكور، ومن الطلاب والطالبات، القادمين والقادمات من أمريكا الشمالية، وأوروبا، ودول أوقيانوسيا.
وحتى أولئك الذين يتمُّون دورات كاملة في المهارات الرقمية، يظلون يواجهون مجموعة متنوعة من المعوقات التي تَحُول دون توظيفهم. فعندما أجرى الباحثون مقابلات شخصية مع الطلاب في برنامج كيني لتقنية المعلومات بجامعة ستراثمور في نيروبي في عام 2004، قال بعض الطلاب إنهم كانوا قلقين بشأن التخرج في اقتصاد محليّ، لا يقدِّر خبراتهم، ولا يتيح لهم وظائف يمكنهم فيها استخدام تلك المهارات والخبرات.
تقول لينيت يارجر، خبيرة المعلومات بجامعة ولاية بنسلفانيا في يونيفرسيتي بارك، والمشارِكة في البحث:
“كان ذلك ينطبق بالأخص على النساء”.
وتقول إحدى الطالبات:
“لأنني امرأة، ربما لا يفكر أصحاب الأعمال في أنه يجب عليهم مَنْحِي وظيفة للعمل في تكنولوجيا المعلومات. ولذا.. ربما لا تتاح لي الفرصة كاملة على الإطلاق لاستخدام كل ما تعلمتُ القيام به، أو العمل الذي أرغب في أدائه”.
ومن بين الأمور التي يوضحها البحث بالفعل أنه حتى البرامج التدريبية المصمَّمة بشكل جيد، ربما لا تكون كافية لضمان النجاح في عالَم العمل الرقمي.
تقول جاريدو: