الوعي والإرادة لدى الكاتب الياباني يوكيو ميشيما – رواية جاموس
حياة الكاتب يوكيو ميشيما (1925 ـ 1970م)
ولد يوكيو ميشيما في 14 يناير 1925 في مدينة طوكيو لعائلة تنتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة. درس القانون في جامعة طوكيو, والتحق بعد تخرجه بوزارة المالية, ثم استقال من عمله ليتفرغ للكتابة. أظهر يوكيو في مرحلة مبكرة من حياته ميلاً شديداً إلى العمق في دراسة الكلاسيكيات اليابانية القديمة, الأمر الذي انعكس في كتابته فيما بعد.
أصدر يوكيو سنة 1944 أول عمل روائي “الغابة في ريعان ازدهارها” وانضم إلى حركة الرومانتكيين اليابانيين التي عرفت بإيمانها بتدمير الذات كقيمة في ذاتها, وتقديرها الصرف للعاطفة([1]).
يعد اليابانيون يوكيو مثل إرنست همنغواي, فهو أهم كاتب روائي ياباني حاول أن يبين خطر التوجه نحو الغرب. ولم يكتف يوكيو باستخدام الأدب في الدعوة إلى الجذور اليابانية وشخصيتها المستقلة, ونبذ الحياة الزائفة, بل إنه حول حياته إلى نوع من الرمز للشخصية اليابانية, حيث مات على الطريقة اليابانية المنتشرة بين طبقة الساموراي, إذ يشق المحارب الياباني بطنه بنفسه بشكل أفقي من اليسار إلى اليمين ثم من أعلى إلى أسفل ضمن طقوس الانتحار المقدسة, التي تعرف باسم “السيبوكو ـ Seppuku” أو “الهارا كيري ـ Hara Kiri“. وهذا ما فعله يوكيو في عام 1970 بعد أن ألقى خطبة أمام حوالي ألف عسكري في مدينة طوكيو, يستنهض فيها هممهم كي يعودوا إلى روح اليابان الأصيلة, وقد جاء انتحاره بعد أو وصل إلى ذروة نجاحه الأدبي, وحيث كانت جائزة نوبل تقترب منه بخطا حثيثة.
أنتج يوكيو خلال حياته عدداً كبيراً من القصص القصيرة والروايات والمسرحيات, ومن أبرزها: اعترافات قناع, غابة الأزاهير, هدير الأمواج, رباعية بحر الخصب ([2]) التي سأركز في دراستي على روايتين منها, هما “ثلج الربيع” و”سقوط الملاك”, لأنهما تقدمان خلاصة آراء ميشيما في الوعي والإرادة.
وصف الروايتين
تعد روايتا “ثلج الربيع” و”سقوط الملاك” جزءاً من رباعية يوكيو ميشيما “بحر الخصب”, المؤلفة على التوالي من “ثلج الربيع” و”الجياد الهاربة” و”معبد الفجر” و”سقوط الملاك” وهي روايات منفصلة ومترابطة تعتمد على مفهوم تناسخ الأرواح.
والبطل في الرواية الأولى هو نفسه البطل في الروايات التالية, فقد تم انتقاله من رواية إلى أخرى من خلال تناسخ الأرواح, ليبدأ في كل مرة دورة وجودية جديدة, ويتاح لأحد أبطال الرواية الأولى “هونس” أن يعرف بمفرده الرابطة التي تصل الأبطال الأربعة, وذلك من خلال ثلاث شامات يحملها الأبطال جميعاً, ومجموعة الأحلام التي تمتد كسلسلة تجمع حيواتهم ([3]).
([1]) فرح, مريم, يوكيو ميشيما وأنهاره المسرحية الأربعة, مجلة البيان من الإنترنت, العدد 73, 2001م.
([2]) محمد, رباب, هدير الأمواج رواية تجسد روح الشرق الحكيمة, مجلة البيان من الإنترنت, العدد 251, 2003.
([3]) ميشيما, يوكيو, ثلج الربيع, تر: كامل يوسف حسين, دار الآداب, بيروت, الطبعة الأولى 1990, ص/15.
وتقدم رواية “ثلج الربيع” المؤلفة من 539 صفحة صورة عن حال اليابان بعد إصلاحات ميجي ([1]), كما تقدم البنى المعرفية الأساسية للرباعية بأكملها, أما رواية “سقوط الملاك” المؤلفة من 335 صفحة, فقد قدمت نتائج المواضيع التي تم طرحها في الروايات السابقة, كما عكست رؤية يوكيو للعالم وفلسفته أكثر من أي عمل من أعماله المئة التي تركها في ستة وثلاثين مجلداً.
الدراسة
إن قراءة روايات يوكيو ميشيما تفصح عن الكثير من الإجابات التي يستفسر عنها المرء, ولعل أبرز الإجابات هي التي جاءت, لتفسر الوعي والإرادة من خلال علاقتهما بالمساهمة في التاريخ, وقد أوضحت تلك الإجابات علاقة الإنسان بالوجود من وجهة نظر يوكيو, كما بينت ضرورة تحقق الارتباط بين الوعي والإرادة, لأن الفصل بينهما قد يؤدي إلى الانهيار أو السقوط.
وقد بدا الوعي لدى يوكيو قوة فاعلة, أما الإرادة فبدت قوة منفعلة, ولو أن القوة الفاعلة لم تجاوز مكانها, لتتحول إلى انفعال, لما كانت هناك أية فائدة من وجودها, وكذا الحال بالنسبة إلى القوة المنفعلة, فلو أن فعلاً نتج عنها فحسب, لكان هذا الفعل سطحياً وفارغاً, ومن هنا تظهر أهمية الربط بينهما, واشتراكهما معاً, لتتحقق القدرة على المساهمة الفاعلة في التاريخ.
ولمفهومي الوعي والإرادة وجود واضح في الذهنية اليابانية, فاليابانيون على وعي تام بضرورة بناء الفرد في سبيل بناء المجتمع, ولذلك يسعون إلى تدعيم الذات الفردية, متخذين من عمليتي ضبط النفس وقوة الإرادة نوعاً من العبادة, فيقومون أحياناً بممارسات قاسية فيها تعذيب للجسد, من أجل تنمية قوة إرادتهم التي يعتبرونها ضرورية من أجل الهدوء النفسي الداخلي, والامتزاج السليم بين الفكر الصحيح والسلوك السديد, فبالإضافة إلى أهمية ذلك لديهم بناء الذات في سبيل بناء المجتمع, فإن ذلك ضروري لتحقيق أثر الفرد في العالم ([2]).
لقد كان يوكيو على معرفة جيدة بالمجتمع الياباني الذي استطاع خلال فترة قصيرة أن ينفض آثار الدمار الذي لحق به وبخاصة بعد إلقاء قنبلتي هيروشيما وناغازاكي 1945, كما كان مدركاً للمرحلة التاريخية في تلك الفترة, وما سبقها, فقد ترك الانفتاح على الغرب الذي بدأ في حقبة ميجي أثراً إيجابياً كبيراً على مختلف نواحي الحياة في اليابان, ولكنه بدأ يأخذ شكلاً سلبياً فيما بعد ذلك, وبخاصة في الفترة التي عاشها يوكيو ميشيما,, الذي شعر بأن خطر الانهيار بدأ يهدد اليابان, خاصة وأن الوعي بطبيعة المرحلة قد غاب, بسبب الإرادة اليابانية الجامحة لتحقيق التقدم السريع, لذلك سعى يوكيو من خلال رباعيته إلى إبراز ضرورة توفر الوعي وإخضاع الإرادة لـه, وإظهار أبعاد هذين المفهومين وآثارهما على المستقبل, حتى وإن كان الحكم عليهما لا يمكن أن يبقى ثابتاً, لأنهما يخضعان لجملة البنى المعرفية التي يخضع لها الإنسان في حياته.
5/1 الوعي
ربما نشترك جميعاً في الاعتقاد بضرورة توفر الوعي, ليكون لنا مطلب من الحياة نسعى إلى تحقيقه, وإن كنا نختلف فيما وراء ذلك من حقائق تتعلق به, فالوعي هو الدعامة الأساسية التي تدفع الإنسان إلى التفكير بجدية في جدوى حياته, وفي كيفية صياغتها وتوجيهها, ومهما كان المعتقد الديني أو الثقافة الإنسانية, فإن مسألة الوعي توجه مسيرة الإنسان تبعاً لواقع حياته وظروفه ومدى خبراته ومعارفه.
([1]) تعرف فترة هذه الإصلاحات باسم (حقبة ميجي) نسبة إلى الإمبراطور ميجي, وامتدت من 1868م إلى 1912م.
وهي الإصلاحات التي خرجت اليابان بفضلها من العزلة التي استمرت حوالي 250 عاماً, وقد حدث خلاها في اليابان انقلاب جذري في الميدان العلمي والتكنولوجيا, كما تم تقليد الغرب في الطرائق النظرية والتطبيقية. انظر التيارات الأدبية في الأدب الياباني, كرم خليل, ص/104.
([2]) رايشاور, أدوين, اليابانيون, ص/217, 218.
وقد قدم يوكيو مسألة الوعي على أنها العمق الداخلي الشفاف في الإنسان الذي يتدفق أبداً ويتغير أبداً ([1]), فهو في حالة فيض مستمر, ولكنه يحتاج إلى النسغ الكافي قبل أن يفيض.
إن الوعي لدى يوكيو موجود في الإنسان, بيد أنه إما أن يكون ذاتياً عفوياً توفرت دواعيه بالخلقة الأولى, فظهر في مرحلة مبكرة من العمر, وهو لا يتاح إلا لقلة من الناس, وإما أن يكون مكتسباً من المعارف, والخبرات, والتجارب التي أتيحت للإنسان معايشتها, وهو لا يأتي إلا مع تقدم العمر, وعليه غالبية الناس.
ولا يتوقف أمر الوعي كلية على الذات, لأنه إن ظل حبيس الذات الإنسانية الفردية, فسيبقى سطحياً لا جدوى منه ([2]). فالوعي يتطلب عمقاً معرفياً يتوطّد من خلال علاقة الإنسان مع الآخرين, ومن عيش الحياة ومعاينتها بمختلف أشكالها وظروفها, فهو خبرة إنسانية قبل أن يكون خبرة ذاتية, وهو إن كان ذاتياً, فلن يكتمل إلا بمعايشة مختلف ظروف الحياة, وإن كان مكتسباً, فلن يتحقق من دونها.
وقد تتاح للإنسان جميع المقومات اللازمة لتوفر الوعي سواء أكان ذاتياً أم مكتسباً, من غير تحققه, ويعزو يوكيو السبب في ذلك إلى فقدان مساندة القدر, التي إن غابت, فسيبقى الوعي غائباً, وهذا ما أوضحه على لسان “هوندا” الذي جعله ممثلاً للذات الواعية, التي تمكنت من أن تنقل لنا خبراتها وتجاربها وخلاصة آرائها في الوجود الإنساني, وفي ذلك يقول “إنني أشك في أن أحداً أكثر يقظة مني في إعمال عين الوعي, وأكثر دأباً في جعلها يقظى, ليس ذلك كافياً لرصد الذروة, فالحاجة ماسة إلى مساعدة من القدر, وإني لمدرك تمام الإدراك أنهم قلائل أولئك الذين وهبوا تلك المساعدة على نحو يقل عما وهبت” ([3]), ولذلك فإن الوعي لا يمتلكه إلا قلة من الناس: “يأتي القليل فحسب, وعندئذٍ يصل الزمن إلى قمته” ([4]).
إن هؤلاء الذين يمتلكون الوعي, يمتلكون أفضل إيقاع في الوجود, وهو إيقاع الذات الإنسانية الذي تبعثه أوتارها عندما تتخطى حاجز الزمن, وتمتزج بالوجود الذي طالما بحثت عن خفاياه بمساندة القدر.
فالوعي بالذات لدى يوكيو هو الوعي بالزمن ([5]), وعي يفهم الإنسان من خلاله القيمة الحقيقة لكل لحظة من لحظات الوجود, فيسعى إلى إيقاف الزمن واستغلاله كما أنه ليست هناك شيخوخة, وليس هناك موت, وتلك هي الذروة التي يتعين على المرء أن يتوقف عندها ([6]).
إن لحظة الذروة هي اللحظة التي يتمكن الإنسان عندها من أن يمتلك الوعي, وتصبح معرفته بالوجود جزءاً من ذاته, وهذا ما لا يصل الإنسان إليه إلا مع العمر “فمع العمر فحسب يعرف المرء أن هناك ثراء, بل فتنة في كل قطرة. قطرات الزمن الجميل مثل قطرات خمر معتقة نادرة, نعم.. عرف الموغلون في العمر أن الزمن يمسك بناصية الفتنة, وعندما جاءت المعرفة لم يعد هناك ما يكفي
من الخمر” ([7]).
إن الوعي هو أن يعرف الإنسان الغنى القابع في أعماق الوجود, فيسعى إلى إثراء ذاته به, ومن خلاله يصبح الإنسان مؤثراً في مسيرة الحياة الإنسانية, وهو مطلب أساسي للوجود الإنساني, وعامل رئيس في تحديد مكانة الإنسان في الوجود.
([1]) ميشيما, يوكيو, سقوط الملاك, تر: كامل يوسف حسين, دار الآداب, بيروت, الطبعة الأولى, 1995, ص/151.
([2]) المرجع نفسه, ص/151.
([3]) المرجع نفسه, ص/153.
([4]) المرجع نفسه, ص/153.
([5]) المرجع نفسه, ص/151.
([6]) المرجع نفسه, ص/152.
([7]) المرجع نفسه, ص/152.
إن يوكيو ينظر إلى العالم على أنه وحدة متكاملة, يقوم الفرد بتحديد صياغتها النهائية, وأن هذا العالم سيكون عرضة للزوال إن غاب الوعي عن الفرد, الذي يقوم بالاشتراك مع الآخرين في حفظ بقائه وبقائهم, إذ إن الوعي يساعد الإنسان على أن يكون ملتزماً ومنضبطاً في سلوكه مع ذاته ومع الآخرين, وهو انضباط يساعد على تحقيق التوافق والانسجام بين الناس, ويدل على أن الإنسان تمكن من استيعاب الوجود وفهمه, بشكل يُبعد عن العالم خطر الوقوع في الصراعات التي تدمر الوجود الإنساني على صفحة الكون, لذلك فإن الوعي الفردي ضروري إذا ما أردنا إكمال الدائرة الوجودية الإنسانية من غير أن تكون مضطربة, وهذا ما نفهمه من قول يوكيو في رواية سقوط الملاك “فلو حدث أبداً أنني تحدثت أو تحركت بأدنى دافع غير واعٍ, لحاق الدمار توّاً بالعالم, وعلى العالم أن يشعر بالامتنان لو عيي بذاتي, فليس في الوعي ما يدعو إلى الفخر, إلا الانضباط ([1])“.
وينتج عما تقدم أن الإنسان هو الذي يصنع التاريخ سواء أكان ذلك بوعي أم بغير وعي, ويتجسد نتاجه الحقيقي بعد انتهاء كل عصر, ففي نهايته تتبدى الملامح الخيرة للصورة التاريخية التي رسمها أبناء عصر ما, وحينها يتم عزل العناصر الأساسية لذلك العصر وتحليلها, وعندئذ سيحكم على العصر من المنظور الذي حدده لـه أبناؤه, وفقاً لدرجة وعيهم التي تشكل الخلفية الأساسية لمجمل نتاجهم.
5/2 الإرادة
ليست الإرادة لدى يوكيو هي الإرادة الفردية, التي تعود نتائجها على الفرد وحده, إنما هي الإرادة التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يفرض نفسه على التاريخ, ويؤثر فيه. فالإرادة الحقيقية لديه هي امتلاك الرغبة بعمل شيء ما والقدرة على فعل ذلك الشيء أو تركه, ومعايشة مختلف الظروف, والعمل الجاد من خلال النظر إلى الأفق المترامي بعيداً, وإدراك تفاصيله وخطوطه العريضة, وترك الأمر بعد ذلك للقدر.
إن يوكيو ينظر إلى الإرادة على أنها الفعل الذي يؤدي إلى بلورة النتاج الثقافي الذي يعد الأساس الضروري لبناء الحضارة, ليست اليابانية فحسب, وإنما العالمية, لذلك فإنه يحكم على الإرادة البشرية من منظور التاريخ الذي تتحول الإرادة البشرية بسببه إلى إرادة تاريخية بفعل القدر.
ويرى يوكيو أن الإرادة البشرية هي مما يتركه القدر للإنسان, ولكنها ما إن تتعلق بتطلعات الإنسان نحو المستقبل حتى يتدخل القدر, فالقدر هو الذي سيحكم عليها بالظهور أو الخفاء, ولن تكون للإنسان أية علاقة بذلك.
ولنقل مثلاً إن شخصاً يتمتع بقوة الإرادة, وهو يرغب في تغيير مجرى التاريخ, وقام بتكريس كل طاقاته وموارده لتحقيق هذه الغاية, واستغل كل ذروة قوة متاحة لديه لإخضاع التاريخ لإرادته, كما أنه يحظى بالمكانة والسلطة الضروريتين لتحقيق ذلك, فهل سيستطيع تغيير مجرى التاريخ وفقاً لإرادته؟
إن أياً مما تقدم لن يضمن أن التاريخ سيمضي طبقاً لمشيئته, ولكن ربما ينجرف التاريخ فجأة بعد قرن أو قرنين أو ثلاثة ليأخذ مساراً يتفق مع إرادته ورؤاه, وربما تستخدم إرادته حينئذ كمرشد خفي لا يحيط أحد به علماً, إن ذلك من شأنه المساعدة في إنجاز ما أراده طوال عمره, ولكن هذا الإنجاز سيكون حينذاك إنجاز إرادة التاريخ ([2]).
إن التاريخ كما يرى يوكيو هو الذي يعرف الحقيقة, وهو النتاج الأكثر بعداً عن الإنسانية للبشر, لأنه يجرف الإرادة الإنسانية بأسِرها ([3]), لذلك فإن على المرء أن يفسح المجال للبلورة المقبلة التي ربما لا تدوم إلا يوماً واحداً, حتى وإن كان البناء والتحطيم يعنيان الشيء نفسه بالنسبة إلى التاريخ ([4]). فجوهر الإرادة لديه هو الرغبة أو المحاولة في التأثير في التاريخ, لذلك فإن الطريقة الوحيدة للمساهمة فيه, هي أن نعمل فحسب, باعتبارنا درّة, جميلة, متألقة, خالدة,
لا تعرف التغير ([5]).
إن يوكيو ينظر إلى الإرادة البشرية من الزاوية الأكثر بعداً وخفاءً, وهي الزاوية التاريخية, وهو من هذه الزاوية ينظر إلى مستقبل اليابان منطلقاً من نظرية الوعي, فهو على يقين تام بأن الشعب الياباني يمتلك قوة الإرادة, ولكن الإرادة ستفضي باليابان إلى الفراغ والعدم إن لم يتدخل الوعي في مواكبة مسيرتها التاريخية.
5/3 العلاقة بين الوعي والإرادة
الوعي والإرادة جزء من المقومات اللازم توفرها في الشخصية الإنسانية, لتساهم في السيرورة التاريخية مساهمة فعالة, وإن فقدان أي منهما يؤدي إلى خلل في التشكلات الدقيقة لتلك الشخصية, وهذا بدوره يؤدي إلى خلل في الدعائم التي سينبني عليها تاريخ المرحلة.
وليس بوسعنا أن نقنن هذين المفهومين, وأن نخضعهما لمعايير ثابتة, لأنهما يختلفان من إنسان إلى آخر, ويخضعان لطبيعة المعارف والخبرات والتجارب الإنسانية المكتسبة, ولكننا نستطيع أن نضع لهما مفهوماً عاماً, وأن نعرض بعض أشكالهما, ولذلك فإن يوكيو بيّن في نهاية رباعيته أن على كل منّا أن يقرر الأمر لنفسه انطلاقاً مما يحدثه به قلبه ([6]), وقد جاء ذلك بعد أن عرض صوراً عديدة للوعي والإرادة تدل على اختلافهما من إنسان إلى آخر.
وقد ركز يوكيو على أهمية هذين المفهومين في المساهمة التاريخية التي يدخل جميعنا في صياغتها سواء أكنا نعي ذلك أم لا, مبيناً من خلال ذلك علاقة الجزء بالكل.
ولا يمكننا أن نتحدث عن الصيغة النهائية لتاريخ مرحلة ما قبل اكتمالها, كما لا يمكننا أن نحكم على إنجاز ما بأنه تاريخي, إذا لم يظهره التاريخ, وليس هناك مجال لفرض الإرادة البشرية على الإرادة التاريخية, وستكون الجهود التي تبذل من أجل ذلك عبثية وغير واعية, لأن التاريخ يخضع لمنعطفات كثيرة يتدخل فيها القدر.
ويكفي المرء أن يعي أنه يسهم في صنع التاريخ, وأنه جزء من المرحلة التي يعيشها, والتي سيحكم عليها لاحقاً من خلال ما قدمه أبناؤها, وبناء على ذلك ينبغي أن تتوفر لدى الفرد الرغبة أو الإرادة في العمل البنّاء من غير السؤال عن مدى قدرته في أن يكون إنجازاً تاريخياً أو لا, ومن غير التفكير في فرضه على التاريخ, وأن يكون لديه الوعي الذي ينظم الإرادة, ويوجهها, لأن “الأفق الخفي الذي لا تستطيع العين الواعية أن تتغلغل فيما وراءه أكثر بعداً بكثير من الأفق الظاهر للعيان, ويدركه الوعي” ([7]).
وتحتاج المساهمة الفعّالة في صنع تاريخ مرحلة ما إلى كل من الوعي والإرادة, لأن تحقق أحدهما من غير الآخر يؤدي إلى اضطراب الفرد, واضطراب المرحلة التي يسهم في تشكيلها, وقد مثّل يوكيو ذلك من خلال شخصيات رواياته.كان “كيواكي” بطل “ثلج الربيع” ممثلاً للإرادة الجامحة التي تفتقر إلى الوعي, لذلك فإن نهايته كانت الموت في العشرين من العمر, بعد صراع مرير مع الحياة, فرضته عليه إرادته التي لم تكن تنظر إلى الأفق الذي يلوح وراء أفعالها, فقد “قرّ قرار كيواكي على أن يديه البديعتين لن تلطخا قط, ولن تعلوهما التسلخات, أراد أن يكون مثل راية ترفرف بحسب الريح, والشيء الوحيد الذي بدا لـه قائماً لا يأتيه الشك هو أن يحيا من أجل العواصف المجردة من المبرر, والبعيدة عن الثبات, التي لا تحتضر إلا لتبعث من مرقدها ثانية, تتراجع, وتتوهج دون اتجاه, ولا هدف ترمي إليه” ([8]).
([1]) ميشيما, يوكيو, سقوط الملاك, ص/22.
([2]) ميشيما, يوكيو, ثلج الربيع, ص/159.
([3]) ميشيما, يوكيو, سقوط الملاك, ص/300.
([4]) ميشيما, يوكيو, ثلج الربيع, ص/159.
([5]) المرجع نفسه, ص/159, 160.
([6]) ميشيما, يوكيو, سقوط الملاك, ص/329.
([7]) ميشيما, يوكي, سقوط الملاك, ص/20.
([8]) ميشيما, يوكيو, ثلج الربيع, ص/46.
كان “كيواكي” يعتقد أن التاريخ لا يكترث أدنى اكتراث بإرادته, لذا فإنه لم يكن هناك مجال للحديث عن إنجازات ([1]) لديه, وما كان ليفكر قط أو يخطر على باله أنه يساهم في تيار عصره, فكان يفعل ما يريده فحسب من غير أن يفكر في نتائجه, حتى وإن كان ما يترتب على ذلك دمار الآخرين أو إلحاق الأذى بهم, هذا على الرغم من معرفته بأنه جزء من الوجود الذي امتلكه بعد أن وهب الحياة.
أما “تورو” بطل “سقوط الملاك”, فكان ممثل الوعي الذاتي الذي لا يعرف صاحبه إلا نفسه, ولا يعترف بالآخرين, وهذا ما أدى إلى تحول الإرادة لديه إلى سلاح موجه لقتل الآخرين.
كان “تورو” في السادسة عشرة من العمر, وكان على يقين تام من أنه لا ينتمي إلى هذا العالم, كما كان يعتقد أنه مختلف عن سائر الناس, وعلى ثقة تامة بنقائه, مهما كان الشر الذي قد يقترفه ([2]).
وعلى الرغم من أن “تورو” كان يقضي معظم أوقاته تأملاً, إلا أن ذلك لم يسهم إلا في جعله لا يرى أكثر من ذاته, التي كان متيقناً من أنها بلغت الذروة, إذ كان اعتقاده أنه “يعرف تشكلاته, حتى أدق أجزائها, والخطأ لا يعرف سبيله إلى نظام تدقيقه, لم يكن هناك لا وعي” ([3]), إن ذلك جعله بعيداً عن استيعاب الوجود, كما جعله غير منضبط في سلوكه مع الآخرين الذي لم تكن فيه أية استجابة للدواعي الأخلاقية التي تحتِّمها طبيعة الوعي الناتجة عن معرفة الوجود, وأهمية الفرد فيه.
إن ذلك قاد “تورو” إلى نهاية سريعة, فقد حاول الانتحار بعد أن تبين لـه أنه كان مخطئاً فيما ذهب إليه, إلا أنه لم يمت, وإنما فقد بصره, فعاش بمفرده منعزلاً عن العالم في حالة موت داخلي.
لقد كان وعي “تورو” شراً متجسداً في الأنانية الناتجة عن عدم اكتمال وعيه من خلال الامتزاج بالوجود, وتلمُّس مواطن الجمال فيه, وهذا ما أشار إليه يوكيو في قوله “كان الشر الذي يغمر تلك الحياة… هو الوعي بالذات, وعي ما عرف شيئاً عن الحب…, ودعا العالم إلى الخراب, بينما هو يسعى وراء الدقيقة الأخيرة الممكنة لنفسه, ولكن ثمة شعاع من النور في النافذة الخاوية.. العالم الذي كان حريصاً على إنكاره, والذي يتضمن في ذاته نوراً وعطراً لم تتح لـه سبل مسِّهما” ([4]).
كان كل من “كيواكي” و”تورو” يمثِّل سطحاً مكشوفاً وفارغاً لا يحمل أي عمق, ولا يرتكز على أية مقومات, لذلك فإن سقوطهما كان ممكناً في أية لحظة, فما فائدة تلك الإرادة القوية التي تدمِّر من غير أن تعلم؟ وما فائدة ذلك الوعي الذي لا يؤدي إلا إلى الانهيار؟ كان كلاهما في سهم في صياغة ملامح عصره نظراً لأنه جزء منه, بيد أنهما كانا نموذجاً للضياع الإنساني الذي غاب عنه الوعي, وسقطت منه الإرادة.
وعلى النقيض من “كيواكي” و”تورو” كان “هوندا” بطل الرباعية بأكملها يمتلك الوعي والإرادة, فقد كان “شاباً يرغب في أن يحيا حياة بنّاءة, وقد اتخذ قراره, فيما يتعلق بالدور الذي سيضطلع به مستقبلاً” ([5]), كما كان يتسم بالمزاج الهادىء, المتحفظ, العقلاني ([6]), وعلى وعي تام بأنه لو حدث أن تحدث أو تحرك بأدنى دافع غير واعٍ, لحاق الدمار تواً بالعالم.
كان “هوندا” مدركاً لخطأ “كيواكي” فحاول مساعدته, بيد أنه لم يتمكن بسبب إرادة “كيواكي” التي كانت تندفع كعاصفة هوجاء لم يكن من الممكن الوقوف أمامها, كما حاول مساعدة “تورو” ولم يتمكن من ذلك بسبب وعيه الذي كان يجتذبه إلى عالم بعيد ومختلف تماماً عن العالم الذي كان “هوندا” يحاول أن يقوده إليه.
لم يكن ليغيب عن ذهن “هوندا” أبداً, أن لكل إنسان أهميته في هذا الوجود, وأن عليه أن يفكر جيداً قبل أن يقرر لنفسه, وقد استطاع “هوندا” بفضل وعيه وإرادته أن يبني وجوده انطلاقاً من معرفته بأنه يسهم في بناء الدائرة الوجودية الإنسانية, فاستطاع أن يستغل حياته حتى آخر لحظاتها.كان كل من “كيواكي” و”تورو” و”هوندا” يشكّل جزءاً من العالم الذي يعيش فيه, ولن نستطيع أن نعزل أيّاً منهم عن تيار عصره الذي سيندرج فيما بعد ضمن التاريخ العام الذي يعيشون مرحلة من
([1]) المرجع نفسه, ص/159.
([2]) ميشيما, يوكيو, سقوط الملاك, ص/20, 21.
([3]) المرجع نفسه, ص/98.
([4]) المرجع نفسه, ص/98.
([5]) ميشيما, يوكيو, ثلج الربيع, ص/46.
([6]) المرجع نفسه, ص/42.
مراحله, فالفرد هو الدعامة الأساسية لبناء تاريخ مرحلة ما, والوعي والإرادة هما الدعامة الأساسية لبناء هذا الفرد, وبتوفر هما تتحقق للإنسان المشاركة الناجحة في بناء عصره.
سادساً: الخاتمة
كان الأفق الخفي الذي يلوح بعيداً وراء البحار, يستقطب انتباه يوكيو, ذلك الأفق هو العمق الداخلي الشفاف للإنسان الذي يتدفق أبداً, ويتغير دائماً, وهو الذي جعله يلج بوابة الأدب العالمي.
لقد كانت الرؤى المستقبلية التي حفلت بها روايات ميشيما نابعة من إعادته لبناء الذات الإنسانية التي تخضع لتبدلات كثيرة ومتنوعة, وهي إعادة بناء استطاع من خلالها أن يتلمس أبرز مواطن الضعف والقوة في الشخصية الإنسانية التي تسهم في بلورة الصورة التاريخية. فالحياة بالنسبة إلى يوكيو هي الحياة التي يعيشها الإنسان على أنه جزء من العالم, يؤثر فيه, ويتأثر به, مع الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية التي يخضع لها الفرد. فلكل فرد مكان في عملية بناء المجتمع ثم العالم, فإذا لم تكن لديه المعرفة التي تؤهله لإدراك ذلك, فهو يسهم في عرقلة البناء. فالمعرفة هي التي تمنح الإنسان القوة الداخلية التي تولد الوعي, وتوجه الإرادة, فإذا افتقد الإنسان المعرفة, اتسم بالفراغ الذي سيقوده إلى العدم.
لقد عرض يوكيو من خلال هاتين الروايتين صوراً عن الضياع الإنساني الذي سينعكس على المجتمع, ويؤثر فيه بشكل سلبي في المستقبل, فعندما يتم انتهاء تاريخ مرحلة ما, تظهر ملامح تلك الفترة, ويتضح أثر الفرد فيها, والملامح التي ستأخذها تلك الفترة, هي الملامح الأكثر وضوحاً وبروزاً, أما ما سواها فإنه سيضيع, وتختفي ملامحه, وهذا ما أوضحه يوكيو بقوله “ما إن يستقر الماء المزبد, ويغدو هادىء السطح, حتى يصبح بمقدورك أن ترى بقعة الزيت, التي تضم ألوان قوس قزح, طافية هنالك” ([1]).
كان يوكيو يحاول دائماً أن يبين الأبعاد التي تكمن وراء السلوك الإنساني غير الموجَّه, ليبين لليابانيين وغيرهم أن على الإنسان أن ينطلق من ثقافته, ويحافظ على أصالته ليشارك في البناء الكلي للعالم, وليساهم في عملية الامتزاج الحضاري.
وقد رأى في الغزو الثقافي الغربي والأمريكي لليابان, وغيرها من بلدان العالم, طمساً للمعالم الحضارية لتلك البلدان, وإلغاء لهويتها, كما رأى في الانجراف وراء تحقيق التقدم السريع, وتوجيه الطاقات الإنسانية لتحقيق هذا التقدم تفريغاً للإنسان من جميع المضامين, وقضاءً على مستقبله.
ولذلك فإن يوكيو أكد على ضرورة توفر الوعي والإرادة من أجل بناء مستقبل الفرد والجماعة, فكان الوعي لديه هو الذي يحيل الإنسان إلى درّة جميلة متألقة لا تعرف التغير, وكانت الإرادةُ, الشعاعَ الذي يصدر عن هذه الدرَّة, فيمنحها التألق, والإشراق, والجمال.
([1]) ميشيما, يوكيو, ثلج الربيع, ص/155.