سينمامنوعات

شظايا يورجوس لانثيموس – مصطفى شلش

المقدمة:

على مر الزمان، تجسدت صورة اليونان السينمائية في مُخيلة المتلقي في شواطئ البحر الأبيض المتوسط الساحرة، والحفلات الصاخبة النابضة بالحياة، والمعابد القديمة المجيدة، وكانت هذه وسيلة لترويج السياحي، حيث يعتبر القادم أنه في حرم حضارة عريقة توقف بها الزمن عند معارك أخيليس ومسرح التراجيديا اليوناني، لكن المشهد الثقافي يتغير الآن، ويتم استبدال الدراما اليونانية القديمة بنوع جديد من السينما البديلة تسمى الموجة اليونانية. وتزدهر صناعة السينما بين الأجيال الجديدة على حُطام المسرح اليوناني، وليس هذا مِن قبيل الصدفة أن أحد أكثر دول العالم معاناة إقتصادية تُنتج السينما الأكثر تميزًا بالوعي الاجتماعي. حيث خلقت الأزمة المعاصرة والمشاكل السياسية والاجتماعية موجة جديدة من المخرجين، لكل منهم صوته المميز، والذي يتجاوز عمله الحدود الوطنية. وعلى الرغم من أن التغيير في المعايير السياسية والاجتماعية يؤثر على الممارسات الثقافية وخاصة الأنشطة السينمائية، وعلى الرغم من القيود المالية إلا أن هذه الإنتاجات ذات الميزانيات الصغيرة نسبيًا مجزية وتستحق المشاهدة.

لذا، يتناول هذا المقال فلسفة المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس (1973-…)، وهو مخرج لعدة أعمال سنيمائية تقسم كالتالي 7 أفلام طويلة، وفيلم واحد قصير إلى الآن، وعلى الرغم من ترشح أحد أفلامه “The Lobster” لجائزة الأوسكار لأفضل سيناريو أصلي في عام 2017 وترشح المخرج نفسه لجائزة الأوسكار لأفضل مخرج عن فيلم The Favourite في عام 2018 يمكن الإشارة للمخرج اليوناني ولأفلامه بوصفهما قليلي الدعاية وغير معروفين تقريبًا لعامة الناس. وينتمي المُخرج لانثيموس لسينما الموجة اليونانية الجديدة، وهي حركة فنية غالبًا ما تتميز أفلامها بتقديم المشاكل الاجتماعية والسياسية والإقتصادية في اليونان المعاصرة إبان الأزمة المالية بطريقة غرائبية – سريالية. وتأخذ منحى استكشافي مضطرب لقوة اللغة والعائلة والتحكم والضبط وبناء الواقع.

عدسة على ما بعد الحداثة

لنوضح قبل عمل Zoom in على المُخرج لانثيموس وأفلامه الإطار العام لأفكاره، والمناخ الذي ساهم في توليد الفلسفة السينمائية لأفلامه، بداية، هل هي مجرد مصادفة أن البلد الأكثر فوضى في العالم هو الذي يصنع السينما الأكثر فوضى في العالم؟ الإجابة بالإكتفاء بالإشارة إلى أن الموجة السينمائية اليونانية الجديدة هي نتاج مباشر للأزمة المالية الحادة في البلاد يبدو ساذجًا قليلًا. لكن،يظل جزء مِن الحقيقة أن انهيار المؤسسة الاقتصادية والسياسية اليونانية تسبب في تدهور غير مسبوق في الجودة الحياة اليومية للشعب اليوناني، مما أدى إلى زعزعة لا رجعة فيها للروايات الوطنية الراسخة التي لطالما كانت مركزية لإنتاج الهوية والتاريخ وإعطاء معنى لهما، وبالتالي الإنهيار فضح هذه الأنظمة الأيديولوجية الخيالية وقدمها بوصفها مسؤولة من نواح كثيرة عن الكارثة اليونانية.

لعبت فلسفة مابعد الحرب العالمية الثانية -مابعد الحداثة- دورًا رئيسيًا في تمهيد الأرض لظهور الموجة اليونانية الجديدة مِن السينما في ظل الإنهيار حيث يُعدُّ مفهوم “التشظي” من المفاهيم الحاضرة باستمرار داخل النَّص ما بعد الحداثي، ذلك أن الحياة ذاتها صارت مُتشظية، لا تخضع لأي نوع من الوحدة والانسجام. وإذا كان ذلك كذلك، فإن طريقة استجابة ما بعد الحداثة لهذه الحقيقة، إنما تجرى بطريقة خاصة؛ فهي لا تُحاول تجاوزها ولا الهجوم عليها، ولا حتى بلوغ العناصر الثابتة والدائمة التي يُمكن أن تكون فيها. ما بعد الحداثة واقع يسبح، بل يتمرغ، في موجة من التشظي والتغير والصيرورة كما لو كان ذلك هو كل ما في الأمر. أن يكون كلُّ شكل وقتيًّا وعابرًا، تلك هي البداهة نفسها، ما دام يتبع علاقات القوى ويكون رهينًا بتقلباتها. حيث يوضح جيل دولوز أن السرد التقليدي يشير دائمًا إلى نظام الحكم لذا تُصر السينما الروائية الكلاسيكية على السرد “العضوي”، الذي يدعي أنه صحيح من خلال الحفاظ على الروابط القانونية في المكان والعلاقات الكرونولوجية مع الوقت. وبالتالي تقدم تمثيل غير مباشر للوقت نتيجة فعل يعتمد على الحركة ويستدل عليه من فضاء المكان. ومن خلال هذا النمط، مع ما تسميه جانيت هاربورد: الأفعال الموحيّة للسرد، المصممة على كشف الخطأ وإعادة تأكيد النظام الأخلاقي، تقدم السينما المعيارية ضمنيًا سلطة أخلاقية أعلى، أي تشريعًا متعاليًا. لكن الإتجاهفي السينما اليونانية المستقلة المعاصرة، والتي لا تتحدى العلاقات المنطقية والكرونولوجية في الزمان والمكان السينمائيين فحسب، بل تتنصل أيضًا من إمكانية الوحي أو الكشف عن الحقيقة من خلال السينما، وتشكك في قدرة السينما على إنتاج مركب ذهني، أي تفتقد للمعنى نفسه. لذا اقترح دولوز تطوير ممارسة وفكر ورغبات عبْر تفضيل ما هو وضعي ومُتعدِّد، وتفضيل الاختلاف على التجانس، والمُتحرِّر على الموحد، والمُنفلِت على النظام، والمتغيِّر على الثابت. ذلك أن كل شيء يتَّسم بالتغيُّر وعُرضة للتنوع. لذا إن الصورة االسينمائة نفسها لم تعد أبدًا وسيلة اتصال مع المُشاهد بل إنها فوضى تنثال عبْر الكلام والمقرون بالحركة.

يمكن أن نشير الآن بشكل من الوثوقية أن الموجة الجديدة للسينما اليونانية تستند إلى مفهوم التشظِّي عند فلاسفة ما بعد الحداثة، وتبني شخوصها الفنية على تصوُّرهم للتاريخ البشري بوصفه مكوَّنًا من لحظات منفصلة غير مترابطة، وبدلًا من محاولة تقديم أساس لإمكانية قيام ذاتٍ مُتماسكة في ظل عالَم من الوقائع المتغيِّرة، يحاول مُخرجي ما بعد الحداثة السباحة مع التيار، استنادًا لعدم إيمانهم بفكرة التقدُّم الخطي للتاريخ، لذا فإن اختزال حياتنا في سلسلة من لحظات الحاضر المجرَّدة وغير المُترابطة ينجم عنه أن حاضرنا يغدو موقوفًا وبقوة ﻟلمادي وللظاهر، إنه عالَم يأتي إلى الانفصام عنيفًا، وحاملًا قوة المشاعر السرية والقمعية، ومتوهجًا بدوافع الهلوسة.

في مقالته الشهيرة التي صدرت عام 1936 «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تكنولوجيًّا» يتحدث فالتر بنيامين عن تقلُّص وذبول وتدمير ما يسميه ﺑ “هالة الفن أو الإحساس بخصوصية وتَفرُّد العمل الفني”، مُفترضًا أن هذه الهالة لا يُمكن فصلها إطلاقًا عن كونها جزءًا لا يَتجزَّأ من نسيج التقاليد الفنية والحضارية، غير أن معنى العمل الفني راح يَتغير في عصر إعادة الإنتاج الآلي الحديث، فتقنيات وآليات إعادة الإنتاج تعمل على فصل المنتج المعاد إنتاجه وانتزاعه من أبعاده التاريخية؛ ومن ثَمَّ يتهاوى هذا الشذى أو تلك الهالة ويتلاشى التفرُّد والخصوصية التي كانت للأعمال الفنية. هذا بالإضافة إلى أن الظروف والأوضاع التي أصبح يَتلقَّى فيها العمل الفني قد تغيَّرت؛ فالمعرض الفني وقاعة السينما والمسرح  يَفقِدوا صفتهم المقدسة حيث يُمكن إعادة إنتاج العمل الفني واختباره أو عيش تجربته في عدد كبير من الظروف أو الأوضاع.

وعليه فما الذي يحدث إذا فقد العالَم آنئذٍ عمقه وبات عرضة لأن يكون سطحًا رقيقًا، ووهمًا، أو مجرَّد تتابع لصور فيلم من دون معنًى؟ لا إجابة، لكن المُخرج الإسباني لويس بونويل (1900- 1983) كان يتعمد بإخبار الجمهور أن عليهم تجنب أي رموز في فيلمه وأن الفيلم يفتقر إلى أي نوع من التفسير، هذا التنويه اللساني الذي كان يقدمه بونويل لنقاده المحتملين، هو نموذج للطرق التي يجب التعامل بها مع الأفلام السريالية التي تختلف عن معاييرنا المعتادة لما نتوقع رؤيته في فيلم سينمائي. كانت وجهة نظر بونويل عن أعماله تخلق إحساسًا بالغرابة لدى الجمهور المتلقي، لكنها كانت تعزز شعورهم بسينما الواقع المفتقر إلى أي موسيقى عرضية والممثلين متناقضين جامديين وعاطفين وسرد الأحداث غير منضبط. لذا، بالعودة إلى فالتر بنيامين وعلى الرغم من الروح النقدية التي يَتحدَّث بها إلا أنه قد رأى في ضياع “هالة الفن” إمكانية لتعزيز التفكير النقدي للجمهور حيال ما يُعرَض عليهم من أعمال فنية. فهالة الفن -التي نبذها بونويل- قديمًا كانت تُشكِّل عائقًا أمام التلقِّي الموضوعي للعمل الفني، وكانت تخلق نوعًا من القداسة للفن، يُطلَق عليه بنيامين الربقة اللاعقلانية وكلما انخفَضت الأهمية الاجتماعية لأحد الأشكال الفنية، ازداد تمييز الجمهور للفارق بين النقد والمتعة.

قراءة في عقل لانثيموس

Zoom in، خرج المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس من عباءة لويس بونويل، حيث يمكن رؤية تأثير المخرج السريالي في مُعظم أفلام اليوناني، من حيث تعتيم الواقع بشكل عام، الإندفاع العشوائي، والتركيز على هشاشة الطبيعة البشرية، والتبادلية بين العبثية والكوميدية والغرابة عامة. وكمثال على وجه التحديد قد وصف فريق التمثيل عن فيلم ” The Lobster” كان السيناريو هو الأغرب الذي رأوه أو قرأوه على الإطلاق.

فلسفة لانثيموس في أفلامه إرتكنت إلى تغيير معادلة الشاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير مِن الفن يساوي خلود، إلى فن يساوي سرعة زوال، فأفلام اليوناني لم تَعُد خارج قانون الزمن، بل أصبح هذا القانون يسري عليها بعنف وصرامة، لقد تشظَّت الممارسات والأحكام الجمالية إلى نوع من القصاصات الجنونية المملوءة بأنواعٍ لا تُحصى من المداخل والأحداث التي لا رابط بينها، ولا يجمعها إطار محدَّد، عقلاني أو عملي.

والتشظِّي كَسِمة أساس في سينما ما بعد الحداثي، سبق شرحها، وإن كان يعني في عالم الصناعة والاقتصاد أن تتمَّ صناعة المنتج الواحد في أكثر من بلد حسب توافر الموارد واليد العاملة. وما نجده كذلك في الاقتصاد الراهن القائم على الشركات متعددة الجنسيات ذات أصول أموال تدعمها دول عديدة، فربما يكون انعكاس ذلك التشظي ظاهر في فيلم ” The Lobster” فهو عبارة عن إنتاج مشترك بين اليونان وأيرلندا وهولندا وفرنسا وألمانيا ، وكان هذا أول فيلم لمخرج يتحدث باللغة الإنجليزية ويتم إنتاجه خارج بلده الأصلي. ويضم الفيلم ممثلين من جنسيات مختلفة، مثل الأمريكيين والفرنسيين. ومن المثير للاهتمام ملاحظة هذه التفاصيل لأن الحبكة لا تحدث في زمن أو مكان معينين، على الرغم من أن بعض الخصائص تكشف شيئًا قريبًا من المملكة المتحدة، مثل اللكنة البريطانية، أو حركة المرور، ولوحات الترخيص ذات الرموز التي تشير إلى أوروبا، وحتى مع الإشارة إلى أن كل شيء يحدث في المستقبل القريب، فالبعد الزمني قد تمزَّق إربًا، وبتنا لا نستطيع المشاهدة أو التفكير إلا في أجزاء من الزمن، يذهب كلٌّ منها في مداره الخاص ثم سرعان ما يتلاشى. ساعدا هذا العاملين الزماني والمكاني على حد سواء في غمر المشاهد في الحبكة السينمائية وفي جو الغرابة الذي يتخلل العمل.

ومن اللافت في أفلام لانثيموس عدم الحضور الكثيف لتكنولوجيا الحالية مثل أجهزة الكمبيوتر أو الإنترنت أو الهواتف المحمولة أو حتى أجهزة التلفزيون. لكن هذا لا يعني أنه لا توجد أجهزة إلكترونية، حيث تظهر في بعض المشاهدات عزف لموسيقى إلكترونية، ويظهر البعض مرتدي سماعات أُذن. ربما يكون عدم ظهور التكنولوجيا هو السمة الأبرز للرسالة المابعد الحداثية لأفلام المخرج اليوناني حيث لا توجد خصوصية للحظة الحاضرة، الذات نفسها مشتتة بين الماضي والحاضر والتطلع للمستقبل؛ لذا لا توجد خصائص أسلوبية مميزة، هناك فقط استخدام وتوظيف لكل ما أنتجته الحضارة البشرية.

الحوار السينمائي

أما على مستوى الخطاب أو الحوار السينمائي نجد أن الملمح الأبرز في أفلام لانثيموس هو تفكُّك المونولوج الداخلي للفيلم وفقدانه وحدته الداخلية أو الكلية؛ فالطريقة التي يُرى بها المؤلِّف، والطريقة التي تُرى بها الشخصيات، والطريقة التي يكون العالم بها مرئيًّا، تُشكِّل وحدة دالة (ذات دلالة أو معنًى)، تعمل عبْر الرموز. لكن في سينما الموجة اليونانية الجديدة ومع لانثيموس انهارت هذه الوحدة وتحطَّم المونولوج إلى شظايا فاقدة الملامح؛ وذلك التحوُّل لم يكن سوى الوجه السلبي لتحوُّلٍ إيجابيٍّ أكثر عمقًا، وأكثر أهمية؛ فقد أخلى المونولوج الداخلي المكان للصورة، وأصبحت الصورة لها مُطلَق السيادة والاستقلالية، بحيث تَكتسب الصورة قيمتها في ذاتها من خلال ما يَسبقها وما يلحقها. لم يَعُد ثمة تناغمات كاملة و«مستقرة»، ولكن فقط تناغُمات غير متطابقة أو انقطاعات لا معقولة، أصبحت الصورة مُتحرِّرة من القيود السردية التقليدية. كما أصبحت الصورة مكتفية بذاتها لا تُحيل إلى شيء خارجها واختفى منها كل مجاز أو رمز. ذلك، يفتح إمكانات غير عادية للفيلم السينمائي ويجعله أكثر قدرةً على التواصُل، وأكثر استقلالًا واعتمادًا على تقنياته الداخلية، لذا يقول جيل دولوز: إذا كان الثوريون يَقِفون حقًّا على أبوابنا، ويُحاصروننا، مثل أكَلة لحوم البشر، فينبغي إظهارهم وهم يأكلون اللحم البشري، إذا كان رجال المصارف قتلة، وكان الطلاب سُجَناء، وكان المُصوِّرون الفوتوغرافيون قوَّادين، إذا كان العمال مُستلَبِين من قِبَل أرباب العمل، فينبغي إظهار ذلك وليس تحويله إلى صورة مجازية؛ إذ لم يَعُد الأمرُ أمرَ مَجازٍ وإنما برهنة وإثبات.

الموسيقى 

أما بالنسبة للصوت، الموسيقى نجد أغلبها مزيج مِن الكمان والتشيلو في معظم الأوقات. سبب اختيار المخرج اليوناني لهاتين الأداتين الموسيقيين في أفلامه غالبًا هو إشارة إلى حقيقة أن المزج الجيد يتشكل فقط بسبب سمة مشتركة، في هذه الحالة، ستتشكل الموسيقى من “زوجين” من اثنين من الآلات الموسيقية حال ظهور أي ثنائية في أفلامه. بينما سنجد الموسيقى الإلكترونية بوصفها سمة مميزة جدًا لشخص الذي يريد أن يكون بمفرده، حتى وإن كان وسط حشد هائل من الناس، وقرر الإنفصال ذهنيًا نجد المزج بين الموسيقى الإلكترونية تعطي نشازًا من الأصوات كدليل على الإنفصال أو إنزواء الشخص مع ذاته.

قضية السلطة

يحتلُّ مفهوم السلطة مكانة بارزة في أفلام لانثيموس، حيث لا يعالج نظرية السلطة، بقدْر ما هو يشير إلى أننا في حاجة إلى سياسة وتدبير جديد لعلائق السلطة، وبغير هذا لن نجد أبدًا معنى شيءٍ ما، إذا لم نعرف ما هي القوة التي يَمتلكها الشيء، والتي يَستغلُّها ويحتكرها ويُعبِّر عن نفسه من خلالها. إن الظاهرة ليست مجرَّد مظهر أو حتى عملية ظهور، ولكنها علاقة أو عرض يجد معناه في قوةٍ آنية. في فيلم ” Dogtooth”

قدم لانثيموس عدة تساؤلات كلاسيكية عن كيف تعمل السلطة؟ وكيف تَنتظِم الحقيقة والسلطة معًا ضمن تشكيلة خطابية واحدة، وخصوصًا داخل الأسرة اليونانية؟ وتمهيدًا لمُناقشة هذه الإشكالية، قام بالسخرية من الفكر السياسي اليوناني عمومًا حول مفهوم السلطة؛ فمفهوم السلطة في نظر لانثيموس أو كما ظهر في فيلمه يَتجاوز السياسي، ليشمل العديد من المظاهر الأخرى مثل الإمتلاك والسيطرة والإستغلال لكمٍّ من الواقع، حتى الإدراك في كل مظاهره المتنوعة هو تعبير عن القوى التي تمتلك الطبيعة.

لذلك لم يبحث المخرج اليوناني عن السلطة عند نقطة مركزية تكون هي الأصل، عند بؤرة وحيدة للسيادة تكون مصدر إشعاع لباقي الأشكال الثانوية التي تتولَّد عنها، وإنما حاول مِن خلال عدسة كاميرته رصد السلطة عند القاعدة المتحركة لعلائق القوى التي تولد، دونما انقطاع، حالات لها. ومن نفس هذا المُنطلَق، ناقش المفهوم الميتافيزيقي الاهوتي عن السلطة الكنسية اليونانية التي ينبغي تقويضها للوقوف عند تلك العلائق. فليست السلطة تنزل من أعلى أو تنبع من فوق، إنها تأتي من كل صوب، وهي منتشرة في كل مكان، حاضرة في جميع الأفعال وأنماط السلوك، وهي لا تَفتأ تنتج نفسها في كل لحظة وحين. ولكن ليس ذلك لأنها تتمتَّع بقدرة جبارة على احتضان كل شيء، وضمه تحت وحدتها التي لا تُقهَر، وإنما لأنها تتولَّد، كل لحظة، عند كل نقطة، أو بالأحرى، في علاقة كل نقطة بالأخرى.

لذا فإن السؤال «ما السلطة؟ أو ما مصدرها وأصلها؟» في غير محله، والأجدى أن نتساءل عن الكيفية التي تتحقَّق بها أو كيف تُمارس نفسها وتظهر إلى الفعل؛ يقول جيل دولوز: إن السلطة تتغلغل في كل جانب حيثما توجد فرديات مهما كانت بسيطةً ومتناهية في الصِّغر، تارةً تقمع، وأخرى تُموِّه أو تخدع وتوهم، تارةً تتقمَّص زي الشرطة، وتارةً ثانية تتخذ شكل الدعاية. لا معنى إذًا للقول بمراكز للسلطة، إنَّ السلطة ليست متاعًا يُكتسب. إنها ليست «شيئًا» يُحصَل عليه ويُنتَزع أو يُقتَسم، شيئًا نحتكره أو ندعه يفلت من أيدينا. السلطة استراتيجية تُمارس، وهي تُمارس انطلاقًا من نقاطٍ لا حصر لها، وفي خضمِّ علائق مُتحرِّكة لا متكافئة، إنها كالفأر لا تُرى بوضوح إلا في متاهات الممرات الأرضية وداخل جُحورها مُتعدِّدة المنافذ. إنها تُمارس نفسها كسلطة، انطلاقًا من نقاطٍ لا حصر لها، تمارس نفسها في خفاء.

يظهر في فيلم Dogtooth لحظات غريبة من أجل استكشاف القوة والتلاعب داخل مُحيط الأسرة، والذي يتجلى في كل من استخدام الأب للغة وبناء الواقع الذي يحبس بداخله الأطفال. لم يحظى هذا الفكر بإهتمام كبير من متلقي السينما العاديين، ويرجع ذلك جزئيًا إلى صعوبة الطرح الذي فرضه لانثيموس في حين أن المشاهد يمكن أن يفترض عدم وجود معاني، عملًا بنصيحة بونويل، خصوصًا إن لانثيموس يتمتع بغموض كبير حول المعنى، ويرفض السماح للناقد بأي فهم حقيقي. على الرغم من ذلك، فإن أعمالهتثير الكثير من التوتر، سواء كان ذلك بسبب الاستخدام المفرط للعنف البدني المادي والعصبي في بعض المشاهد أو اللغوي.

اللغة

الشق اللغوي لدى لانثيموس يستحق دراسة متأنية، خصوصًا أن أفلامه تُظهر عوار مدرسة فرديناند دي سوسير لشرح الطريقة التي تعمل بها اللغة وتؤدي وظائفها، وتعتمد على فكرة أن اللغة تعمل كنظام قائم بذاته، ونسق مُستقِل يتكون من مجموعة من الدوال، وأن هذا النسق هو الذي يُحدِّد هوية ووظيفة عناصره الفردية. وقد عارض سوسير مفهوم اللغة كظاهرة يتحكَّم فيها التاريخ ويحكم مسار تطورها، وتتكوَّن من إجمال العناصر والقواعد التي اكتسبت المعنى على مرِّ الزمن، وقدَّم في مقابل هذا المفهوم القديم للغة مفهومًا جديدًا يرى في اللغة نظامًا مستقلًّا بذاته. ومعنى هذا في مجال المُمارسة أن قراءة أي دال وتفسيره تتضمَّن بالضرورة إقصاءً لكل أنواع القراءات واحتمالات التفسير الأخرى التي تشتمل عليها بنية اللغة. لذا على خطى جاك دريدا سار المخرج اليوناني أثناء تأليفه حيث يقدَّم مفهومًا أو تصوُّرًا للغة ترتَّب عليه القول بأن المعنى لا يَتحقَّق أبدًا بصورة كاملة. على أن نقد دريدا لسوسير كان هدفه الرئيس التشكيك في إمكانية تحديد المعنى من الأساس. فإذا كانت قدرة الدال على إقامة علاقة مع المدلول لا تَعتمد -وفق تصوُّر سوسير للغة- على تعريف الدال إيجابًا (أي تحديد هويته)، بل على تعريفه سلبًا (أي تحديد ما ليس هو)، فإن عملية إنتاج الدلالة تَغدو بِرُمَّتها عملية تتحقَّق من خلال الغياب (غياب الدال واختلافه عن غيره من الدوال) بدلًا من الحضور (أي حضور الدال)، ذلك أنَّ الدال لا يقوم بوظيفته إلا بالرجوع إلى كل إمكانيات التفسير واحتمالاته التي يَشتمِل عليها النظام اللغوي والتي يَتحدَّد معناه في اختلافه عنها. 

ويترتب على ذلك أن الدالَّ إذا انقطعت صلته بأي مدلول مُستقِل، وفي الصلة التي تُوحِّد بين المعنى ونشاط الدوال بحيث لا يُمكن الفصل أو التمييز بينهما، فإن المعنى بدوره يخضع في هذه الحالة لعمليات الاختلاف ذاتها التي تَسمح للدالِّ القيام بوظيفته، وهذا على سبيل المفارقة. وهكذا يُصبح تحديد المعنى يعتمد على تعريفه سلبًا (أي على تحديد ما لا يكونه) بدلًا من تعريفه إيجابًا برصد ما يَعنيه. والنتيجة المُترتِّبة على قيام المدلول بوظيفة الدال بصورة دائمة تتمثَّل في أن العلامة لا يُمكنها أن تُصبح مماثلة لمعناها أو أن تمتلك المعنى بصورة كاملة، وهذا لأنَّ في سعيها لاقتناص المعنى تقع دائمًا في سلسلة لا نهائية من العلاقات والإحالات المُتبادلة بين الدوالِّ، ما يجعل عملية تحديد المعنى بصورة نهائية حاسمة أمرًا مستحيلًا.

نستطيع أن نَستنبِط من فهْم دريدا، وتطبيقه على الأعمال السينمائية للانثيموس من حيث شروط إنتاجها واستقبالها، أنها على عكس الحداثة التي كانت تنحو نحو البحث عن الأصول والقواعد كمحاولة للتغلب على اعتباطية العلامة وعدم استقرار معناها. فإن العمل السينمائي المابعد حداثي للانثيموس يسعى للوصول إلى جوهر تحقيق خصائص وقيَم فنية مشروعة بذاتها، ولا تحتاج لتبرير من خارجها.

الخاتمة

لسبب ما فإن مناقشة السينما الغربية المنفصلة نسبيًا عن هوليوود تمثل إحدى ترك إكتشاف العوالم البشرية الآخرى، وتشجع الآخرين على الإنخراط في عملية تفكير إبداعية، والحصول على صور ذهنية أفضل عند إصطدامها بالعالم الخارجي الواقعي التي تحاول السينما الغير تقليدية تقديمه.

للآسف في أغلب الأوقات يتم مراجعة الأفلام السينمائية بوصفها درب لتسلية، وتُعاني الفلسفة العربية من نقص في مجال القراءات السينمائية نسبيًا، خصوصًا أنه يتم المراجعة بشكل ميكانيكي ضحل، وتكرار جُمل كلاشيهية على مئات الأفلام دون البحث عن الأفكار والمدارس والبلدان والظروف التي نشأت منها هذه الأفلام وما هي المسائل المجتمعية والسياسية والإقتصادية التي تحاول معالجتها. 

كما من المهم أن ندرك أنه عندما يتعلق الأمر بالفن أو الترفيه بشكل عام، يميل الكثير من الناس إلى الاعتقاد بأن “الذوق لا يناقش”.لكن هذا ليس صحيحًا، يجب علينا مناقشة أي مسألة، فقط بعدما نحدد الآطر العامة  لكيفية المناقشة، وذلك مِن أجل الانفتاح على وجهات نظر جديدة. ليس لأن الناقد اعتقد أن الفيلم كان سيئًا فهذا يعني أنه كذلك حقًا، أو أن الفيلم لم يحقق إرادات مليارية في صالات العرض فأنه غير جدير بالمتابعة، كما أن مدح النقاد والإيرادات لا تعني بالضرورة أن الفيلم جيدًا.

لذا تكمن أهمية تقديم قراءة فلسفية نسبيًا للمُخرج اليوناني يورجوس لانثيموس أنها تعالج بطريقة مباشرة قراءة الناس لأفلامه، التي في ظني يعتبرها الكثيرون مملة، فهي أفلام منعزلة، مُقلقة، مشوشة، ولكنها تجعلك في تفاعل حقيقي مع الواقع الإجتماعي المابعد حداثي الحقيقي، فالكل معزول خلف شاشات التكنولوجيا، الجميع يختنق من الملل، والفشل في السعي، والتفاع غير المريح مع البيئات المختلفة في الشارع وفي الجامعة وفي العمل. أفلام اليوناني لانثيموس يصعب مشاهدتها ولكنها تسهل فهم المشكلات التي نمر بها جميعًا ونتجاهلها.

المصادر

  1. مصطفى، بدر الدين. دروب ما بعد الحداثة. مؤسسة هنداوي
  2. :http://www.hollywoodreporter.com/review/dogtooth-film-review-29723
  3. :https://www.theguardian.com/film/2010/apr/25/dogtooth-film-review
  4. :http://variety.com/2009/film/markets-festivals/dogtooth-1200474781/
  5. :http://sensesofcinema.com/2005/great-directors/bunuel/
  6. http://theculturetrip.com/europe/greece/articles/greek-new-wave-cinema-giorgos-lanthimos-panos-koutras/
  7. https://www.e-ir.info/2018/02/14/weirdly-queerly-ethical-contemporary-greek-cinema-and-the-crisis-of-meaning/
  8. https://theculturetrip.com/europe/greece/articles/greek-new-wave-cinema-giorgos-lanthimos-panos-koutras/
  9. https://www.academia.edu/35672653/HISTORY_AND_PSYCHOANALYSIS_ON_GREEK_NEW_WAVE_CINEMA
  10. https://www.academia.edu/42180095/Uncanny_Realities_in_Lanthimos_Kynodontas
  11. https://www.academia.edu/40411499/Por_que_tão_estranho_Breve_Análise_Técnica_e_Estética_do_Filme_The_Lobster_O_Lagosta_2015_Dirigido_por_Yorgos_Lanthimos
  12. https://www.academia.edu/39795059/The_Favourite_Filminin_Efendi_Köle_Diyalektiği_Üzerinden_İncelenmesi
  13. https://www.academia.edu/39710768/Anti_Eros_A_Platonic_Reading_of_The_Lobster_2015_
  14. https://www.academia.edu/38520611/The_uncomfortable_Greek_Weird_Wave
  15. https://www.academia.edu/40523838/The_Social_Construction_of_a_Dogtooth_

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى