الحدود الشرقية للجزيرة العربية، جون باريت كيلي
على الرغم من كونه جاء مع الاستعمار، إلا أن كيلي فيه سمت الباحث الحقيقي الذي حاول أن يفهم المجتمع العربي برغبة صادقة
عن المؤلف: جون باريت كيلي
وُلدجون باريت كيلي (1925-2009 ) في أوكلاند، نيوزيلندا، وكان باحثًا بارزًا في منطقة الخليج. وعلى الرغم من الصعوبات المبكرة التي واجهها في حياته، بما في ذلك فقدان والده وعدم قدرته على الخدمة في الحرب العالمية الثانية بسبب ضعف بصره، واصل كيلي مسيرته الأكاديمية اللامعة. وقد أدى عمله في معهد الدراسات الاستعمارية في أكسفورد (1955-1958)، إلى جانب استكشافه المباشر للساحل المتصالح في عام 1957، إلى جعله أحد الخبراء الغربيين البارزين في شؤون الخليج. وقد توجت هذه الخبرة بأدواره الاستشارية لوزارة الخارجية البريطانية وللرئيس المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله.
ج. ب. كيلي له عدة مؤلفات، من بينها المتعلقة بالمنطقة العربية والخليج:
- الحدود العربية الشرقية (1964)
- بريطانيا والخليج الفارسي 1795-1880 (1968)
- الجزيرة العربية والخليج والغرب (1980)
نظرة عامة على كتاب ” الحدود العربية الشرقية
يستكشف كتاب الحدود العربية الشرقية الذي نُشر عام 1964 التعقيدات الجيوسياسية للنزاعات الحدودية في شبه الجزيرة العربية. ويجمع الكتاب الذي يقع في 319 صفحة وخريطة مفصلة مطوية، بين البحوث الأرشيفية وملاحظات كيلي المباشرة، مقدماً تحليلاً دقيقاً للديناميكيات الإقليمية والتاريخية والاستعمارية في المنطقة.
الجغرافيا السياسية والنزاعات الإقليمية
يبحث كيلي بدقة في التفاعل بين القوى الاستعمارية، ولا سيما بريطانيا، والإمارات المحلية، ويوضح بالتفصيل تطور الحدود التي شكلتها كل من النظم القبلية التقليدية والجغرافيا السياسية الحديثة. تبرز الجوانب التالية:
- التأثير الاستعماري البريطاني: تأثّر التحوّل من الولاء القبلي إلى الحدود المحددة جغرافياً بالتدخلات البريطانية.
- التوسعية السعودية: أعادت الطموحات الإقليمية للحركة الوهابية تشكيل المشهد السياسي، مما خلق توترات مع الدول المجاورة والقوى الاستعمارية.
- نزاع واحة البريمي: يتعمق كيلي في هذا النزاع الهام، وهو معركة بالوكالة بين أبوظبي المدعومة من بريطانيا والمملكة العربية السعودية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تنطوي على حقوق النفط والولاءات القبلية.
السياق التاريخي: التوسع الوهابي والتحولات الإقليمية
يضع كيلي النزاعات الحدودية ضمن السياق الأوسع للتوسع الإقليمي الوهابي. وتشمل مراحل هذه الحركة ما يلي:
- التوسع الأولي (1745-1800): استولت الحركة بقيادة محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب على أراضٍ شاسعة، بما في ذلك الرياض وأجزاء من الأحساء.
- ذروة التوسع (1800-1812): وصلت القوات الوهابية في عهد سعود الأول إلى أوجها، حيث استولت على مكة المكرمة والمدينة المنورة وأجزاء من العراق. شهدت هذه الفترة صراعاً مع الدولة العثمانية، وبلغت ذروتها في حملة محمد علي المصري للحد من نفوذهم.
- الدولة السعودية الثانية (1824-1891): بعد سقوط الدولة السعودية الأولى، عادت الدولة السعودية الأولى في عهد تركي بن عبد الله وبسطت سيطرتها على الأحساء وحائل وما بعدها.
وقد كان لهذه التوسعات آثار دائمة على حدود المنطقة وهياكلها السياسية، مما أدى إلى تشكيل المملكة العربية السعودية الحديثة.
الشيخ زايد بن خليفة آل نهيان: ركيزة إقليمية
يسلط كيلي الضوء على فترة حكم زايد الأول (1835-1909) في أبوظبي باعتبارها حقبة محورية في استقرار الحكم الإقليمي. فقد وازنت قيادة زايد بين التحالفات القبلية المحلية والضغوطات الخارجية، مما أرسى أسس بروز أبوظبي الحديثة.
اتفاقية التحكيم لعام 1954
النقطة المحورية في الكتاب هي اتفاقية التحكيم في يوليو 1954، والتي سعت إلى التوسط في النزاعات في منطقة واحة البريمي. يحلل كيلي أهميتها في السياق الأوسع للتنافس الأنجلو-أمريكي والديناميات السياسية المحلية.
المساهمات الأكاديمية لكتاب الحدود الشرقية
لا يزال عمل كيلي حجر الزاوية لفهم سياسات الحدود في شبه الجزيرة العربية. وقد جعل تحليله المفصّل للنزاعات الإقليمية ودمجه لوجهات النظر الاستعمارية والمحلية من الحدود الشرقية للجزيرة العربية نصًا أساسيًا في دراسات الخليج. وبعيدًا عن المجال الأكاديمي، أثرت خبرات كيلي في المفاوضات الدبلوماسية، بما في ذلك دوره الاستشاري للشيخ زايد خلال النزاعات مع السعودية وقطر. كما أثرت رؤاه أيضًا في السياسة الخارجية الأمريكية من خلال انتسابه إلى مركز وودرو ويلسون ومؤسسة التراث.
مدى مصداقية الكتاب أكاديميًا
كيلي، على الرغم من كونه من الباحثين الذي جاؤوا مع الاستعمار، إلا أن فيه سمت الباحث الحقيقي، فكان يأخذ أبحاثه على محمل الجد، ويتعمق في فهم المجتمع العربي، والتعرف على عاداته وتاريخه وثقافته، فتجده مثلا يعرف من هو شيخ قبيلة العوامر الشيخ سالم بن حم العامري رحمه الله، وورثها عنها ابنه الشيخ مسلم بن حم العامري. وتجده مثلا يتحدث في أمور غريبة على الانجليز مثل أساليب الضيافة العربية، واهتمامهم بالإبل والصقور، مثل هذه اللمحات تقوي من مصداقية الباحث وتزيد من أهمية كتبه.
أما على المستوى الأكاديمي، فقد اتسم الكتاب بما يلي:
- البحث الشامل والتحليل العميق: يضفي اطلاع كيلي على الأرشيفات الاستعمارية البريطانية وعمله الميداني عمقًا لا مثيل له على تحليله.
- وجهات نظر متوازنة: يربط الكتاب بين وجهات نظر الاستعمار والسكان الأصليين، ويسلط الضوء على تعقيدات المفاوضات الإقليمية.
- السياق الزمني: يقدم الكتاب الذي نُشر أثناء انسحاب بريطانيا من الخليج، تأملات متبصرة حول التحديات المستقبلية في المنطقة.
الخاتمة: الأهمية الحديثة لكتاب “حدود الجزيرة العربية الشرقية
على الرغم من شمولية الكتاب، إلا أن جمهور الستينيات قد يجد لغته ومقاربته أقل سهولة للقراء المعاصرين. بالإضافة إلى ذلك، قد ينتقد عليه البعض اعتماده الشديد على السجلات الاستعمارية البريطانية، وبالتالي هناك شبهة انحياز معرفي، ولذا يجب التحري حين الرجوع إليه وعدم الاكتفاء بما يرد فيه كحقائق مجردة، بل يجب بحث الأمر من خلال مزيد من وجهات النظر العربية.
لا يزال صدى كتاب ”حدود شرق الجزيرة العربية “ يتردد في المناقشات حول الجغرافيا السياسية في الخليج. ويوفر استكشافه للنزاعات الإقليمية التاريخية رؤى قيمة في الديناميكيات الإقليمية الحالية، لا سيما في ضوء المناقشات الجارية حول السيادة وتخصيص الموارد. إن قدرة كيلي على المزج بين الدقة الأكاديمية والدبلوماسية العملية تضمن استمرار إرثه في الأوساط العلمية ودوائر صنع السياسات على حد سواء.