منوعات

فصل مترجم من أغنيات الثوم – مو يان

 

ترجمة : إقبال عبيد Image result for garlic ballads

Image result for mo yan

————————————————————————

أتمدَّد في حقل الذرة، أتأمَّل كثافة الغيوم المتشكِّلة في حين أوراق الدُّخْن الحادَّة تحاصرني.

تتلاشى الغيوم، تحت قبة السماء الزرقاء الصافية؛ لتحرق الأرض الحامية ظهري.

تتدلى حبات النُّسغ مثل سُبحة بيضاء بخيوط شفافة على الأوراق المنتصبة، متردِّدة في السقوط أرضًا، تُشبه كثيرًا الدموع على أهداب العين!

يتراقص الدُّخن في تموجات، ثم يسكن عند توقف الرياح. تنحني السيقان الناضجة في حين يَنغِق زوج من الغربان بنعيق مُذعن، يلتصق أحدهما بذيل الآخر، يتبعهما عُصفور فضوليّ يخلط زقزقته مع نغيقهما.. الهواء لاذع مصحوبًا برائحة الثوم الطازجة التي تنبعث من الأرض.

جينجو وحيدة  في هذا الحقل منحنية؛ هذا لأنها تقطع الدخن الذي انخفض من بين ساقيها، تتسارع يداها بشدة، تضرب الأرض، وتخطف حَفنة تلو الأخرى، وتتموج حركتها إلى أعلى وأسفل، مثل ذيل أصفر كثيف.حُزمتي من الدُّخن مكدسة قربي، و بين خطوط الذرة المهجورة تحاول جاهدة أن ترى الشمس بين فجوات الدخن.

فدانان من الأرض لا يكفيان لفارس مثلي.

لقد اخترتها منذ أن خرجتُ من الجيش العامَ الماضي. إنها ليست جميلة، ولكن أيضًا ليست قبيحة.. كانت مجرد فتاة صغيرة شابّة عندما غادرتُ. والآن قد  كَبِرَتْ، وقوِيَ عودها. أنا أحب المرأة القوية!

سآخُذ حصتي من الدخن إلى المنزل بعد ظهر هذا اليوم.

ساعة يدي المصنوعة من ماركة دياموند التي صنعتها شانغهاي تسير بسرعة، ومتقدمة بحوالي 20 ثانية كل يوم، تشير الآن إلى  11:03.

حدَّدتها عبر المذياع منذ بضعة أيام، لذلك فعليًّا هي في الدقيقة الحادية عشرة. يمكنني أخذُ وقتي في المنزل.

كان إحساس غاوما بالشفقة عميقًا عندما كان منتصباً في مكانه، مُبحرًا بيده، يشاهد جينجو خُلسة، كان يحدق بنفس التركيز الذي مارسه الغرابان اللذان طارد أحدهما الآخر، وتلاهما على  مقربة العصفور بزقزقته المنفردة.

لم تكن تعرف أن هناك أحدًا ما من ورائها.

غاوما يستمع لمشغل الأغانيّ الصغير في جيبه، يستمع إليه عبر سماعات الأذن. قَرُبَ نَفاد البطاريات، تشوه الصوت ليبدو خافتًا ومشوهاً، لكنها موسيقى جيدة في كل الأحوال، وهذا ما ينبغي أن يوضع في الحُسبان.

فتاة شابة مثل زهرة، ظهرُ جينجو كان عريضًا ومسطحًا، و شعرها رطب، كانت تتنفس بقوة.

أزال غاوما  السماعات، ووضعها على عنقه، حيث لا تزال الموسيقى المشوَّهة مسموعة.

“جينجو”.. ناداها بهدوء، أزعجته لسعة الموسيقى القادمة من السِّدادة؛ الأمر الذي جعله يحُكّ. ثم قام بضبطها.

اقتربت ببطء، نظرة فارغة على وجهها المتعرق. كانت تُمسك بمِنجل في يدها اليمنى، وحُزمة من الدُّخن في يسارها. نظرت بلا حَراك إلى وجه غاوما الذي كان مفتونًا بمنحنى خصرها و بجيوب سترتها الزرقاء وباهتة اللون. لم ينطق بشيء.

غرست جينجو المِنجل أسفلها، وقسمت الدُّخن إلى حُزمتين، ثم وضعتهما على الأرض. أتت بقليل من الحشائش، ولفَّت كل حزمة.

جينجو، لِمَ يجب عليك القيام بذلك وحدَكِ؟

ذهب أخي إلى السوق”، أجابت بهدوء، تمسَح وجهها بكوعها، وتضرب خَصرها بقبضة يدها؛ لتُزيل الغُبار وحبّات العرَق من على وجهها الشاحب. تمسك بالخيوط الرطبة من شعرها، وتعدِّل من هيئتها.

أتعاني تشنُّجًا في جانبك؟

ابتسمتْ. تنتشر بقع خضراء صغيرة أمام أسنانها الأمامية، لكن البقع الأخرى تتلألأ. زِرُّ ياقتها المفقود أظهر خط صدرها الأبيض الناعم، و الذي لم يتحمله.

تظهر خدوش حمراء صغيرة قرب حنجرتها ورقبتها المكشوفة، حوافِّ الدخن الحادة، وضعت أيضًا أجزاءً من مسحوق أبيض على جلدها. لتخفيه

أخوكِ الأكبر ذهب إلى السوق؟”، تمنّت أنه لم يقل ذلك؛ لأن أخاها الأكبر مُقْعَدٌ لا يستطيع العمل، أما الذي يذهب إلى السوق عادة فهو الأخ الثاني.

أجابته باعتدال : “لا.

يجب أن يكون هنا ليساعدك”!

نظرت في ضوء الشمس. شعر بالأسف من أجلها!

كم الساعة أخي الأكبر غاوما؟

نظر في ساعته: “الحادية عشرة وخمس عشرة دقيقة”، وأضاف سريعاً: “ساعتي متقدمة قليلا.”

تنهدت بهدوء، ونظرت إلى حزمة الدُّخن الخاصة به، وقالت: “أنت محظوظ أيها الأخ الأكبر غاوما؛ ليس لديك إلا نفسك لتقلق عليها، الآن بعد أن انتهيت يمكنك أن ترتاح قليلا”.

تنهدت مرة أخرى، ثم استدارت، واستندت إلى مِنجلها: “يجب أن أعود إلى العمل!”

وقفت بلا حَراك خلف شخصية عازمة: “سأساعدك”، قالها وهو يتنهد.

شكرًا، لا أستطيع أن أَدَعَكَ تفعل ذلك”، قالتها في تهذيب.

نظر في عينيها: “لِمَ لا؟ ليس لديّ شيء آخر لكي أقوم به… ثم ما فائدة الجيران إذن؟!”

خفضت رأسها، وتمتمت: “حسنًا، يمكنني قبول بعض المساعدة.”

أخرج مشغل الأغانيّ من جيبه، وأوقفه ووضعه على الأرض، وسماعات الأذن، وكل شيء.

ماذا يشغل هذا؟” سألته.

فأجاب: “الموسيقى.

ينبغي أن تبدو لطيفة.”

جيدة لا بأس بها، باستثناء انخفاض البطاريات. سأحصل على البعض غدًا؛ حتى تتمكني من الاستماع له.

قالت مبتسمة: “إن كُسرت مني.. فلستُ مسؤولة، لن أستطيع تحمُّل تكلفة إصلاحها.”

قال: “إنه ليس هشًّا كما تظنين، أبسط جهاز في العالم، ثم إني لن أجعلك تدفعين أبدًا“!

بدأا في قطع الدُّخن الذي اختطفه بهمهمه متصاعدة. كانت تمشي أمامه، و مقابل كل صفين تقطعهما كان يجزّ ثلاثة، وضعها في حُزَم.

ثم قال: “والدك  ليس طاعنًا في السن كي لا يكون جانبك ليساعدك.

توقف حَفُّ مِنجلها: “لديه ضيوف اليوم.”

لم تنجُ بنبرة تعليقها الحزينة من غاوما الذي تناسى الموضوع، وعاد إلى عمله.

توتَّر مِزاجه أكثر مما كان قبلًا، يحك الدخن وجهه وكتفيه “قطعتُ ثلاثة صفوف لكلّ منَّا وأنتِ تقفين في طريقي؟!”، قالها وقد تفجَّر غضبًا!

 

الأخ الأكبر غاوما”، كانت على وشْك البكاء، ثم شكت: “إنني مُتعَبة للغاية!

أجاب: “كان يجب عليَّ  أن أُخمِّن؛ هذه ليست وظيفة امرأة.”

يمكن أن يتحمل الناس أيَّ شيء.”

لو كان لديَّ زوجة.. لتركتها تعمل في المنزل، في المطبخ، أو ربما تَخِيط  الملابس، أو تطعم الدجاج، لكن لن أتركها تعمل في الحقول.”

 

نظرت إليه جينجو، وتمتمت: “إنها امرأة محظوظة، أَيًّا كانت.”

جينجو، أخبريني ما الذي يقوله القرويون عني“؟

لم أسمعهم قطُّ يقولون شيئًا.”

لا تقلقي؛ مهما كانت تلك الأشياء.. فسأتقبّلها”.

حسنًا، البعض منهم يقولون … لا تغضب! … يقولون: إنك اقترفت خطأً في الجيش.”

هذا صحيح، قد فعلت ذلك.”

يقولون: إنك أنت وزوجة قائد الفوج …… أمسكوا بكما“.

غاوما ساخرًا: “يا إلهي! لم تكن زوجته، كانت معشوقته، وأنا لم أحبَّها، لقد كرهتها.. لقد كرهتها فعلا“!

قالت وهي تتنهد: “إنني أفهمك”.

إنها لا تستحقّ ضرطة كلب”! تَعَثَّر، ثم رمى المِنْجَل، وركل الدُّخن بغضب، ثم أعادها مرة أخرى: “إنها لا تستحق ضرطة كلب!”

حضر شقيقها المُقْعَد في ذلك الوقت، وتَذَكَّرَ غاوما. وعلى الرغم من أنه لم يبلغ بعدُ الأربعين، قد تحوَّل لون شعره إلى اللون الأبيض، وبدا وجهه متجعِّدًا بعمق، كانت ساقه اليسرى أقصر من اليمنى، يستخدم طرفًا حديديًّا يعطيه عرجًا واضحًا.

جينجو، هل تخطِّطِين للبقاء هنا فترة الغداء أيضًا؟

اضطرب غاوما مستشيطًا، ثم همس: “لماذا يعاملك أخوكِ كأنكِ أسوأ عدوٍّ له”؟!

عضت على شفتها، ثم سالت دموع كثيرة على خديها!

جينجو، لم أكن أعرف لحظة سلام منذ أن بكيت في ذلك اليوم!

أنا أحبك، أريد أن أجعلك زوجتي… لقد مرَّ عام بالفعل جينجو، لكنكِ تتجنبينني عندما أحاول التحدث معك… أريد أن أنقذك من جحيم حياتك؛ تشانغ كو، وعشرات الخطوط التي تنتظرك من الدخن!!

 هي كل ما أطلبه، ثَمَّة ما  يكفي من الوقت للأخذ بيدها؛ ولو صرخت أمام الجميع.. ولو جاءت  والدتها تقفز تشتم، أو تصفعني!!

لا، لن تصرخ، أعرف أنها معتادة؛ إنها ليست سعيدة بالزواج الذي رتبوه لها. كان ذات اليوم الذي ناداها أخوها الأكبر هو ذات اليوم الذي ساعدتها في جزّ الحصاد.

 والذي اتفق والداها مع الجد ليو شنغ لى وتساو ون.

التعامل مع الآباء وثلاثة أولاد وثلاث بنات معًا مثلُ التعامل مع  الكثير من الجراد، سلسلة مع ستة روابط، أنها وسيلة مضنية لتكوين أُسر جديدة.

هي لا تكرهني، هي معجبة بي! و حين نلتقي تخفض رأسها، وتبتعد ، لكنني أستطيع رؤية الدموع في عينيها.

إن قلبي يَجرح  كبدي،  يؤلِم رئتي، ويتسبب في  آلام في معدتي، يؤلمني كل شيء بداخلي …. “سيدي القائد، أَسرِعْ، أَعطِ الأمر!”، صرّح تشانغ كو: “أرسِلوا قواتكم إلى أسفل الجبل … أنقِذوا أختنا الكبيرة جيانغ … الكثير من العُثّ قد مات في ضوء  الفانوس الضعيف، أختنا الكبيرة جيانغ محتجزة، تخاف الحشود على سلامتها.

أيها  الرفاق، يجب أن نهدأ! إن أخذوا أختنا الكبيرة.. فسأكون أنا الشخص الذي سيجمع الحزن كله … تقوم السيدة العجوز، أُطلِقُ النار من  مسدسين في الهواء، يرفرف شعرها الأبيض في الريح، وتذرف الدموع على وجهها.

قل شيئًا تشانغ كو! غني تشانغ كو: “زوجي يقبع في معسكر السجن… وترتدي أرملته وابنته اليتيمة الثورة”. تشانغ كو، بضعة خطوط أخرى، واثنان آخران، ويمكنني أن أُمسك بيدها، أستطيع أن أشعر بدفء جسدها، أستطيع أن أشُم رائحة العرق النقيِّ تحت إبْطَيها!

“لا تجعل الثورة تقودك إلى  التهور … يجب أن تكون مُتمهِّلًا وواثقًا، خطوة واحدة، دقيقة في كل مرة“!

انفجارات في داخل رأسه، وصعِدت هالة من الضوء حتى حاصرته سحابة من ألوان كثيفة.

مدَّ يده، يبدو أن يده تمتلك عينين، أو ربما عيناها كانت تنتظر طوال الوقت.

قبض عليها بإحكام، كانت عيناه مفتوحتين، لكنه لم يَرَ شيئًا. قلبه الشاحب،لم يكن يشعر بالبرد، لكنه كان يرتعش

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى