الأمهات باعتبارهن صانعات للموت
الأمهات باعتبارهن صانعات للموت
للكاتبة: كلوديا داي – باريس ريفيو
ترجمة: أمينة الحسن
كتبت المسودة الأولى من روايتي (heartbreaker) في عشرة أيام من الجنون، من شهر أغسطس من العام ٢٠١٥م، حينها كان يغطي أذني اليسرى ضمادا بحجم قبضة اليد، يظهر في أسفله أثر قٌطُبِ زرقاء داكنة اللون. عظمي الركابي في الأذن والذي يعتبر أصغر عظم في جسم الكائن الحي، حيث يتم شحنه لتوجيه الصوت في الأذن الوسطى، قد تعطل. لدي الان خطاف رقيق من التيتانيوم يرفرف في رأسي. وبطريقة خارقة أشبه بالمعجزة عاد سمعي.
اصطحب زوجي ابنينا في رحلة طويلة إلى كوخ صغير على الساحل الشرقي من كندا. ليس باستطاعتي حمل الأشياء الثقيلة ، و عليَ أن أحافظ على نبضات قلبي بمستوى منخفض ـ ولم يكن بإمكاني غسل شعري ثم تسريحه في عقدة لامعة بالزيت في قمة رأسي. أغلقت هاتفي الخلوي ، و فصلت الهاتف الأرضي و الانترنت كذلك . هذه كانت خطتي بعيدة المنال . ألم يكن جونثان فرانزين يصب الاسمنت في منفذ الذاكرة الخاص به (USB) ، و يعمل في مكتب مستأجر، مفروش بالسجاد… مكتب كأنه فم جهنم! يعمل فيه حتى ينتهي. فأي شخص أمسى اليوم؟ نعم إنها الحرية.
لقد كان زوجي مدركا بأن رواية تنمو باضطرام داخلي. و الطريقة الوحيدة لكي أهدأ .. أن أكتبها ، و لكي أكتبها فإن السبيل الوحيد لذلك أن أكون وحيدة ، و لم أكن وحيدة خلال عقد من الزمن ، لأنني أم ، و لا يمكن للأم أن تكون بمفردها قط ، عندما تغسل ، عندما تنام ، عندما تسخط ، هي ليست بمفردها . هذا هو ما يكون عليه حال الأمهات . الأطفال يتعلقون في ملابسك ، يعصفونك بالأسئلة . إنهم مثل النزاع المسلّح ، مثل الحب الجارف ، مثل نهاية العالم ، يستحوذون على كل المساحة المتاحة فيك .
و أخيرا تم فحص سمعي أثناء حملي بطفلي الثاني ،
و قد لا أتمكن من سماع الكلمات الأولى المبكرة لإبني العزيز ( و سوف أعلم قريبا أن مرضي هو ذاته الذي أصاب (بتهوفن) و (هوارد هيوز) ، قد تفاقم مع الحمل ). دخلت كابينة الاختبار، غرفة قاتمة من المقابض و الأسلاك ، و أُوصِد الباب الثقيل خلفي .جلست ثم وُضِعت سماعات الرأس الضيقة جدا على رأسي ، جمهوري كان شخص واحد ، أخصائية السمع، وكان لها وجه المبشرات، و قد أثقلته بالمكياج. نظرت ناحيتي من خلال الزجاج السميك. و كما أرشدتني، كنت أضغط على زر جهاز التحكم كلما سمعت نغمة أو كلمة . و يمكنني أن أقول بان هناك ثغرات كبيرة بين ضغطاتي، مقدارا كبيرا من الحياة يجري خارج تجربتي فيها ، الساعة على الحائط بدأت في العد التنازلي ، تخيلت غرف الإعدام للسجناء ، لسنوات عديدة من حياتي ، كما لو أن الصوت كان يعيش على الجانب الآخر من نهر سريع الجريان . و في نقاشاتي مع الآخرين ، أتواصل بشكل جيد جدا بالإشارات ، أعرف تماما ما يعنيه ذلك ، يبدو أن هذه إشارة كافية لما أعانيه.
حين أكون في المنزل يمنحني الصمم تركيزا هائلا ، و كأن لدي قدرة خارقة على الاستغراق التام . إنه يحيطني بخصوصية عميقة ، و لكن ما أن أصبحت أما ، فإن ذلك ليس أمومي و أنا أتحمل مسئولية طفل ضعيف و غامض ، لأن صممي يشكل خطرا الآن ، ( السيارات القادمة ) قالت أخصائية السمع ، و هي تومئ ناحية طفلي الذي تتدلى قدميه من الكرسي في الزاوية المقابلة لمكتبها ، لكنني لست بمفردي كي أتمكن من التعبير عن انزعاجي من كلامها . بعدما خرجت من كابينة الاختبار نظرت إليّ الاخصائية بشيء من الحب قائلة ” لا أعرف كيف تعاملتِ مع هذا الأمر كل تلك الفترة الطويلة، لابد وأنك مجْهدة ” كل ذلك فهمته من خلال قراءة الشفتين.
غادرت المبنى الأبيض الكائن في أحد الضواحي وبحوزتي مجموعة تجريبية من المساعِدات السمعية، وحينما أوصدت باب سيارتي، ذهلت من الصوت. أدرت المفتاح لتشغيل السيارة، فإذا بصوت المذياع يهدر، اندفعت ناحية زر التحكم بالصوت، كان الصوت أشبه بالهجوم: طائرة بلا طيّار، ثلاجة، خطوط كهرباء، حركة مرورية، كنت باستمرار أشعر بالدوار هنا، متأهبة للدخيل، وكان الصوت هو الدخيل بذاته، بعد أربعة أشهر انتزعت مساعدِات السمع من أذني وأنجبت طفلي الثاني في أقل من ثلاث ساعات، كنت بحاجة لأن أكون على الجانب الآخر من نهر سريع الجريان. (بالمناسبة، إنه صبي) قالت لي القابلة بعدما عدت إلى الغرفة، إلى العالم! كان جسم الطفل حارا على صدري، لم أفكر أن أسأل عن شيء، كنت أريده، أريده فقط.
بعد خمس سنوات، ها أنا أعيش في جسد ذي سمع، لم أعد أعتمد على الأدوات الصغيرة التي أخفيها تحت المخبأ السميك في شعري، إنني أكتب ـ أكتب بسرعة الحيوان الملاحق من قبل حيوان أكبر منه، وذلك الحيوان الأكبر هو الوقت. ها كم مخططا عموديا لأم فنانة، الخط الأول يمثل الحجم المتزايد من التعبير والحاجة إليه، والخط الثاني يمثل سرعة تبدد الوقت.
أن تكتب فهذا بمثابة أن تكون في حوار مع نفسك، أن تحافظ على كينونتك، لذا تستطيع أن تكتشف سلسلة من الأفكار والمشاعر، إن العدو لهذه العملية هو الاقتحام. الأطفال. بكل ما فيهم من جمال ووطيش وعبقرية غريبة. يبدون كمقتحمين لمسار نيزك.
حين تصبح المرأة أما، تحدث بداخلها تغييرات عديدة، وكأنها واقعة تحت تأثير سحر، تفقد معها حريتها. في كتابها A Life’s Work تفترض (راشيل كوسك) أن الأم تنقسم في اللحظة التي تشاهد فيها إنسانا آخر يخرج من جسدها، حيث أن تلك اللحظة ذاتها، لا تعد فيها الأم قادرة على أن تصبح وحيدة، ولا تحقق الوحدة بداخلها. كتبت كوسك ” الولادة ليست مجرد ما يفصل النساء عن أنفسهن، بل إن عليهن أن يتفهمن التغيرات المتشكلة بداخلهن، شخص آخر يبقى حيا بعد الولادة في نطاق وعيهن ومستحوذا عليه، فحينما تكون الأم مع ذلك الشخص الآخر تكون ليست هي، وحينما تكون بدونه تكون ليست هي أيضا”.
إن العمليات الذهنية للأم، إدراكها، انحرافاتها، تشتتها، حبها لذاتها، يصبح كل ذلك مغمورا في روتين التربية. يندفع أمام دماغ الأم شريط بالأشياء التي يجب أن تتذكرها: الملعقة، ثوب السباحة، الحليب، التطعيمات، وقت الدخول ووقت المغادرة، ٣:١٥. هذه القائمة تعبّر عن الاهتمام. إنها شكل من أشكال الحب، أخبرتني امرأة حكيمة ذات مرة، أن الحب هو الشعور الذي تخلقينه لدى الآخر، الحب هو الشعور الذي تجعلين طفلك يحسه. إنك تنجزين مهام القائمة – القائمة لا تٌقهر، بل تبقى في تزايد مستمر.
في روايتها الأخيرة بعنوان (الأمومة) تناقش (شيلا هايتي) ما إذا كان يجب عليها أن تصبح أما، تطرح جميع الأسئلة الممكنة في سؤال واحد. وتتساءل في الثلة الأخير من الكتاب: لكم أتمنى أن أصبح كاتبة جيدة كفاية – أن أعبر فيما أكتبه عما قد يشعر به الإنسان – فإذا لم تكن لدي تجربة الأمومة؟ إذا لم تكن لدي تجربة فيما اعتبرته بشكل متزايد مؤخرا تجربة محورية في الحياة؟ بالنسبة لي فإن الجواب يعتبر منعطفا يشكل حياتي، إذن الجواب لا. يجلب الأطفال معهم الهدايا الغامضة، والمعلومات الجديدة، مع أولادي تمخضت كل مشاعري المستقرة والمضطربة. أخترت الولادة الطبيعية كي أجرب، لأنني أردت أن أعرف ماهي الولادة كي أكتب عنها بعدما نجوت منها.
أنا مثل (هايتي) ولكن على الضفة المقابلة للشاطئ، بالأمومة عملت على خدمة مهنتي الكتابية.
أن تكتب رواية فهذا يعني أن تزيح الستار عن ضائقة أو مناقشة أمر ما داخلها. وللقيام بأكثر أمر شخصي وبشكل أدبي – كتبت روايتي (heartbreaker) لأنني قبل عقد من الزمن، حينما كنت حاملا للمرة الأولى، دخل الموت في الحمل، كانت صدمة، وصدمة مريعة، أقحمت نفسها بقسوة داخلي، كان عليّ أن أقلبها بين يديّ مرارا وتكرار، اضطررت للتحديق فيها مليا، لأرى ما ستكشف عنه. ثم أصبحت الصدمة بحجم رواية!
لم ينذرني أحد بأن الموت يقدم مع قدوم أي طفل، سوف ينسل الموت إلى ذهنك، ويحيط بجسدك المتنامي، وبمجرد أن يغادره طفلك، يحيط به الموت أيضا. سيكون من الخطورة أن تحولين انتباهك بعيدا عن طفلك – هكذا يجعلك حضور الموت تشعرين.. لطالما أصبحت المحادثات التي أجريها مع أمهات جدد في حدود ضيقة لا تخرج عن هذه القائمة: البطانية، الحفاظات، والكريمات. كل محادثة أجريها تكون محادثة خاطئة ـ لم تهنئني أي أم لا أردفت: إن أكثر الأفكار سوداوية تستحوذ عليّ، وأنت؟
فكرت بيني وبين نفسي، من أجل ذلك لا تنام الأمهات. لأجل ذلك لا يشحن الأمهات بنظرهن بعيدا عن أطفالهن، حتى حين تكون مكسورة القلب، تعيد الأم نفسها إلى الحياة.
كنت أعرف أنني حاملا حين شممت رائحة احتراق الغراء الذي يربط الشرائط الخشبية ببعضها في غرفة النوم بشقتنا، حينما ذكرت هذه التفاصيل لأحد أصدقائنا لاحقا نظر إلى بطني المستدير قائلا: ذلك أشبه بوضع الفريسة والضحية، جسدك هكذا يجب أن يكون يقظا للأخطار الجديدة أو ما شابه.
كتبت روايتي في كل غرفة فارغة وجدتها ويكون فيها باب يمكنني قفله. كانت هذه الطريقة التي يمكنني بها إسكات تدفق الذكريات وأحاديث النفس. فتح لي الأصدقاء شققهم وأكواخهم، وغادرت أنا بيتي وعملت في كل مكان ستة أيام، ثمانية أيام، أي وقت أختلسه من حياتي. ثم أعود إلى ولديّ الطويلين، وغرف النوم التي بدت خربة! كتبت وكـأنني في سباق سرعة (المسافات القصيرة). إلى حد بعيد ك(جون براين) وهو يدخل غرفة في ( فندق ناشفيل) مع عشرة صناديق من أوراق مرصفة بكلمات الأغاني وثلاث قيثارات، وقيثارة الكلال (البرتغالية) ثم يغادر بعد ذلك بأسبوع وقد انتهى من تأليف ألبوم (شجرة الغفران). إنه يتوجب على المرء أن يحلم كما يحلم نجوم الروك.
وبالرغم من انهماكي، يظل لدي رابط إنساني بالمنزل، كنت أتصل كل ليلة وأستمع إلى صوت ولديّ السعيدين الوالهين، لتأكيد وجودهما، وبالتالي وجودي.
في كتابها ” The Perfect Nanny ” تأخذنا ليلى سليماني بالحديث عن الخوف من الموت حتى منتهاه. تبدأ روايتها بهذه الجملة المرعبة ” إن الطفل قد مات ” إن خوف الأم يتركز حول أطفالها. كما يتكشف لنا من تلك الكلمات الأربع الأولى القاسية، أن الأطفال يتعرضون للمخاطر حينما تكون الأم بعيدة عنهم. ولقد استلهمت سليماني حكايتها من قضية المربية البريطانية( لويز وودوارد) البالغة من العمر تسعة عشر عاما، والتي اتهمت بقتل الطفل الذي ترعاه. وطوال فترة محاكمتها لم تكن كراهية عامة الناس موجهة( لوودوارد)، باعتبارها القاتلة، بل إلى أم الطفل العاملة! التي يُنظر إلى غيابها على أنه السلاح الحقيقي لقتله. ونقلت سليماني عن محامي (وودوارد) ” إذا لم تكن تريد حدوث شيء لأطفالك فعليك أن تتولى رعايتهم بنفسك “. وعلى هذا الاتهام ردت سليماني قائلة: أعتقد أن ذلك أمر قاس للغاية، أن تقنع الناس بفكرة أن تعهد بغيرك لرعاية طفلك أمر سيء، إنها أداة لإقصاء النساء – حيث تنتهي هذه القضايا غالبا بـ ” حسن إذن على المرأة أن تبقى في المنزل “.
وترى الكاتبة (سامانثا هانت) الوجهين المشؤمين ” الأمومة والموت” كوجهين يشكلان العملة المعدنية النسوية.
إذا ما تصورنا بأن الموت كجزء من الحمل وتربية الطفل، فقد نتعامل مع النساء بصرامة أكثر، في مقابلتها في مجلة النيويوركر حول قصتها (قصة حب) تقول هانت: إن أكثر ما ينفرني ويغضبني من التمييز الجنسي هو الانتقائية، وتبسيط المرأة في علامات أنثوية محددة. حينما أصبحت أما لم يقل لي أحد ” لقد صنعت الموت، أنت تصنعين موت أطفالك ” في هذه الأثناء لم أستطع التفكير في أي شيء آخر، من المخيف أن نفكر بأن الأمهات صانعات للموت، لكن من المؤكد أن ذلك يمنحهن المزيد من القوة والتعقيد أكثر ما نرى عادة.
” الأمهات باعتبارهن صانعات للموت “صورة روجت لها الثقافة بطريقة معاكسة بقوة . إن الحمل يشبه الاغتسال تحت ضوء الشمس، وضوء القمر، وتحت ضوء الله، فما هو أكثر جمالا من امرأة حبلى، وهي منجزة الوعد الخالص؟ عقلها مشرق ونقي بينما يتتبع الطفل البريء كتب العلوم الغريبة حول تشكل أظافر قدمه بداخلها.
تحتوي الكتب الأكثر شيوعا عن الحمل ذات الأغلفة المرسومة بالباستيل – مؤكدة على أفكار الأم المرسومة للباستيل، النساء اللواتي رسمن بخطوط باهتة في وضعيات مادونا على كرسي هزاز في ميدان حرب من قصص الخيال العلمي، فيه الوردي والأصفر والأزرق الباهتين. إن جسد المرأة الحامل يجب أن يعود بعد الولادة في أقرب وقت ممكن إلى أبعاده السابقة قبل الحمل، وهذا الوجوب ينطبق على عقلها أيضا. ويجب أن يتوقف أي ذكر للحادثة الصادمة والساحقة التي تملأ روح الأم الجديدة. يجب أن يتوقف أي ذكر للرواية التي تتوق لكتابتها. يجب أن يتوقف أي ذكر للموت.
رابط النص الأصلي :
https://www.theparisreview.org/blog/2018/08/14/mothers-as-makers-of-death/