منوعات
للكاتب جدول زمني أيضاً
ترجمة : علي زين
إنه أداءٌ، يجب ألا ننسى ذلك مطلقًا، فمهما كان كم التفكير والبحث قبل الكتابة, ومهما كان كم التحرير والتصحيح بعدها, فإن الكتابة الفعلية هي أداءٌ، ثمة تلك اللحظة التي يجب عليك فيها القيام بها، لذا عليك كتابة الإيقاعات الصوتية التي تبحث عنها، وعليك إيجاد التتابع المناسب للتفاصيل والأحداث والوصف والحوار، فإذا لم تقم بكل شيءٍ على النحو الصحيح فلن ينجح أي قدر من العبث في إنقاذ الموقف.
ولذلك فإن المشكلة الرئيسية التي تواجه الكاتب أثناء تخطيط يوم الكتابة هي كيف يمكنه الوصول إلى “حالة التركيز الشديد على العمل”، وكيف يمكنه الوصول إلى قمة الأداء مهما قصرت مدته؟ للرياضي جدول زمني للتدريب، فتاريخ الفعالية والمسابقة محفور في ذاكرته، عدا الحماس في الاستاد المليء بالجماهير, والذي سيؤدي بدوره إلى إطلاق أفضل ما بداخله، وللممثل نص أيضاً بالإضافة إلى البروفات, وكذلك وهج المسرح الذي يغمره بالإضاءة عند حاجته لذلك، أمّا الكاتب فليس لديه شيء. ولهذا نجد جميع تلك الطقوس البسيطة والمجنونة التي نسمع عنها: مثل استخدام قلم رصاص من النوع المتوسط (4 إيتش) ودفتر ملاحظات من نوع مولسكاين، وضرورة الكتابة في مكانٍ محددٍ, وفي غرفةٍ محددةٍ ,وفي وقتٍ محددٍ بالضبط في اليوم، واحتساء نوعٍ محددٍ من الشاي، وتدخين نوعٍ محددٍ من السجائر، وجميع تلك المحاولات اليائسة لاستعطاف الإلهام وتحقيق التلاقي بين ما هو عادي وما هو إبداعي.
كانت المشكلة في بداياتي في الثمانينيات من القرن العشرين هي الخواء التام، فزوجتي كانت تذهب للعمل في الثامنة، وتعود في السادسة والنصف، وكنَّا نسكن في منطقة “ويليسدن” شمال غرب لندن، حيث خدمات التدفئة باهظة الثمن، مما جعلني ألُفُّ نفسي بالبطانية, وأضع عند قدمي زجاجة مياه ساخنة، وكنت أكتب وأنطق ما كتبته بطريقةٍ مريعةٍ، وكنت أكتب ثانيةً بخط اليد، وأخرج لشراء القليل من السلع، وأحيانًا أذهب إلى حمام السباحة, وأشعر بالذنب لأني أخذت وقتًا للاستراحة بينما كانت زوجتي تعمل، ولكن لم تكن ثمة دار نشر تقبل نشر أعمالي على أية حالٍ، لكنني لم أيأس، ولو كان ذلك من قبيل الحاجة إلى القسوة مع الذات، وبكل تأكيد كانت هناك فكرة ما في مهدها: شيءٌ ما أسعى وراءه بكل إيمان، إلى أن تحقق ما أسعى وراءه فجأةً في نهاية الأمر، ولعل ذلك كان يحدث قبل عودة زوجتي إلى البيت بنصف ساعة. حيث كانت ثمة أفكار عفوية, أفكار تخرج مني دون تخطيط, ولكنها مشوقة، عندها كنت أدون تلك الأفكار بسرعة وعلى نحوٍ محموم، فمن الرائع حقًا حدوث ذلك الكم الهائل من الكتابة الذي يمكن للكاتب خلقه خلال نصف ساعة وكله ثقة بالذات.
بعدها كانت تظهر مشكلة معاكسة: مقاطعة أكثر من اللازم، ومواصلة أكثر من اللازم، مثلاً: التعامل مع الأطفال (وإظهار الحب لهم)، وطلبات المقالات، وطلبات الترجمة، والهاتف والفاكس وأخيرًا البريد الإلكتروني والإنترنت، وهما الأكثر تدميرًا، فأصبحت الآن أداة الكتابة هي أيضًا أشد الأدوات تشتيتًا للانتباه، فهي تصدر الرنين والصفير، وتحتوي على لمبات تحذير وامضة، بالإضافة إلى تشغيل الموسيقى والفيديو، إننا نعرف أن الروائية الإنجليزية “جين أوستن” كانت تعمل في صالون مزدحم وسط ثرثرة العائلة والأصدقاء، ولكنها لم يكن لديها دفتر ملاحظات يمكنه إظهار أفضل الأهداف في مباريات الأمس, وعرض المدح والإهانات الواردة من لوس انجلوس وملبورن مثل هذه الملاحظة: “السيد المحترم/ باركس، في الطبعة الثانية من كتاب “Italian Ways” (عادات إيطالية)، ص. 45، زعمت على نحوٍ خاطئٍ أن…”
فهذا هو روتيني إذًا، أو هو ببساطة الأسلوب الذي ابتكرته لتحقيق فترة مثمرة ـــ فإن لم تكن يوميًا فكثيرًا ـــ لأنه أكثر مرونة من الروتين، وكثيرًا بما يكفي.
أكتب بخط اليد، لكن…ابدأ كل يوم بكتابة ما كتبته باليد في اليوم السابق على الحاسوب، وهذا ما يجعلني أهدأ، وفي الوقت ذاته تعرضك هذه الطريقة للقليل من الملهيات الحاسوبية أثناء ذلك، فلا يجب عليك أن تشعر بأنك تعاقب ذاتك، فأنت لست زاهدًا ولا قديسًا، أنت رجل يؤدي وظيفته فحسب، وفي الجانب الآخر من المنضدة تجلس رفيقتك تترجم، فثمة جو من المرح في المكان، وليس ثمة شعور بالمعاناة.
في بعض الأحيان تستغرق تلك العملية كل الوقت المتاح لديك، وفي بعض الأيام يكون عليك أخذ إجازة من أجل التدريس، فلن تكتب شيئًا جديدًا، ولكن إذا سارت الأمور على ما يرام ستكون قد انتهيت من التدريس في الحادية عشرة تقريبًا، وعندها ستترك الكمبيوتر, وتترك رفيقتك, وتأخذ كوبًا من القهوة وتذهب إلى الطاولة في الغرفة الإضافية حيث توجد كراسة ملاحظات في انتظارك وقلم حبر على أتم الاستعداد، أنت تجلس الآن أمام صفحة بيضاء، ولكن بداخلك ذلك الزخم الناتج عن الارتماء في أحضان ذلك الإيقاع الذي يميز العالم الذي تعيش فيه، وإذا حالفك الحظ يمكنك البدء من تلك النقطة، إن جرّة القلم مشجعة للغاية، فالخط المائل إلى الأمام, وتدفق خط اليد سيذكرنا دائمًا بمن نحن وما المزاج الذي نحن فيه، وعلى مر العديد من السنوات تعلمت عدم كتابة أي شيء على نحوٍ آلي، ولكن بالانتظار والتأمل, والتفكير الطويل والتدبر حتى يبدأ الأداء من تلقاء نفسه, مثل زفرة قادمة وعلى نحوٍ غير متوقع من أعماق البطن.
المصدر:
https://www.theguardian.com/books/2017/apr/15/my-writing-day-tim-parks