ماريا بوبوفا – بإمكاننا السير حتى النهاية
مهما بدت مشاهد حيواتنا مشوشة، ومهما كنا ، نحن الذين نعيشها، منهكين ، بإمكاننا مواجهة تلك المشاهد والسير حتى النهاية.
كتبت : ماريا بوبوفا
ترجمة :دلال الرمضان
في إحدى ظهيرات مدينة نيويورك الحارة ، كنت أجلس مع صديقة لي كانت زميلتي في الدراسة لسنين عدة في أحد المقاهي. وقد كنت ، فيحقيقة الأمر، فتاة لا تخلو من بعض الغرور والسذاجة . ولا تلقي بالاً للشعر على الإطلاق. حتى بدأت صديقتي بقراءة بضعة أبيات للشاعر ( إدوارد إستالن كانينجز ) في مقهى مانهاتن الصاخب ذاك .
في تلك اللحظة، تغير كل شيء. كانت تلك الأبيات هي الشرارة التي أوقدت لدي شغفاً حقيقاً بالشعر.
وبالرغم من وصف الشاعر الروسي ( جوزيف بروسكي) للشعر بأنه أداة لتطوير ذائقتنا الأدبية ، كما هو حال الشاعر الأمريكي ( جيمسديكي ) الذي وصف ، بدوره، الشعر قائلاً :
“يتيح الشعر للفرد أعمق أنواع التملك للعالم “
إلا أن ردة فعلي ، في يوم الثلاثاء الصيفي ذاك ، لم تكن مستغربة على الإطلاق. لأن مجتمعنا يضمر نوعاً من المقاومة الغريبة للشعر . بلوربما الرفض المتعنت لفكرة احتواء الشعر على ما وصفه الشاعر الانكليزي ( ويليام ووردزوورث) بـ ” النَفَس والروح المرهفة لكل المعارف” وهذا ماعرضته الشاعرة الأمريكية ( موريل روكيسر ) في كتابها المعنون بـ ( حياة الشعر) والصادر في عام ١٩٤٩ ، حيث قالت :
” إنه رفض يتسم بالخوف“
إن كتاب ( موريل) هذا يعد استكشافاً رائعاً ، وبالغ الحكمة لكل الأشكال والأساليب التي نُبعد بها أنفسنا عن تلك الهِبة المتمثلة بذلك الفنالذي الأساسي ، المتغلغل في الروح ، والملم بالحقيقة ، والذي لايمكن الاستغناء عنه . تستهل ( روكيسر ) كتابها قائلة:
إن الشعر هو الطريقة التي تُشعر البشر بتلاقي ضمائرهم مع العالم . وهو الذي يشعرهم بقيمة معاني مشاعرهم وأفكارهم ، وبجدوىعلاقاتهم مع بعضهم البعض . هو فرصة للإحساس بعذوبة الأشياء و احتمالاتها المتعددة . فالشعر فن يهبنا كل هذه الأشياء . لكنه ، للأسف، فن منبوذ في مجتمعنا . لقد حاولت جاهدة ، في كتابي هذا ، تتبع أساليب رفض الشعر . بدءً من كل أنواع الملل ، ونفاد الصبر ، ناهيك عنإطلاق صفات كالنخبوية ، والغموض، والاضطراب ، و إثارة الشبهات على الشعر.
فهل ثمة ما هو حقيقي من بين تلك الصفات ، وهل يمكن أن يفضي ذلك إلى إفساد إدراك الإنسان ؟
يمكننا أن نلاحظ أن آراءً كهذه من شأنها أن تؤدي إلى تقييد ملَكة الخيال لدى الشاعر وجمهوره ، على حد سواء.
أما في سعيها للوقوف على أسباب الرفض للشعر ، تعرض ( روكيسر ) أوجه الشبه بين الشعر والعلم قائلة :
تتشابه روابط الشعر ، إلى حد كبير ، بروابط العلم . و لا أقصد بذلك النتائج العلمية ، بل أعني نقطة التلاقي بين كافة أنواع الخيالات ،والتي يمكن للشعر أن يمنحها لقرائه . في الوقت الذي تتكون فيه السيمفونية ، مثلاً ، من مجموعة من النوتات الموسيقية ، و النهر من عددهائل من قطرات الماء ، لا يمكن للقصيدة أن تكون مجرد الصور والكلمات الواردة فيها . فالشعر يعتمد في وجوده على تلك الروابط المتحركةبداخله . هو فن يعيش في زمنه . يعبّر ويستحضر تلك الروابط المتحركة بين إدراك الفرد والعالم . إن آلية عمل القصيدة تقوم على نقل الطاقةالإنسانية . و أظن أن بمقدوري تعريف طاقة الإنسان بكونها قدرته على الإدراك ، وعلى إحداث تغيير في ظروف وجوده .
إن تقبل معاني الشعر من شأنه أن يمهد لاستخدام الشعر كتمرين للاستمتاع بإمكانية التعامل مع المعاني الأخرى في العالم وفي حياةالفرد بطريقة مختلفة . من الطريف أن نلاحظ أن كافة الأسباب التي عرضتها ( روكيسر ) في زمن نشر كتابها عام ١٩٤٩ لا زالت موجودةفي زمننا الحالي بشكل أكثر وفرة و إلحاحاً من ذي قبل .
في اللحظة التي نواجه فيها آفاقاً وتضادات أكثر اتساعاً مما سبق ، غالباً ما نلجأ لمصادرنا الخاصة التي هي مصدر قوتنا . لننظر ، مرةأخرى ، لأماني الإنسان ومعتقداته . وتلك المصادر هي التي يمكن لخيالنا ،من خلالها ، أن يقودنا للتفوق على أنفسنا .
إذا حدث وراودنا شعور بفقدان شيء من تلك الوسائل ، فربما يكون سبب ذلك الشعور هو
عدم استخدام إحداها ، أو ضرورة إيجاد الكثير منها والبدء باستخدامها هي الأخرى .
لطالما قيل أنه يتوجب علينا استخدام طاقاتنا البشرية ، و بأن ثقافتنا هي التي تحثنا على استخدام كل مافيها من ابتكارات وحقائق . ولكن ،ثمة نوع من أنواع المعرفة الثمينة ، المتمردة ، والتي تفوق الأوابد الأثرية في قدرتها على تحدي الزمن ، والتي يجب أن تتناقلها الأجيال فيمابينها بأية طريقة تكن ، ألا وهي الشعر .
تعود ( روكيسر) هنا للحديث عن الدور الفردي للشعر ، وعلاقته بالعلم وباقي الفنون ، لتقول :
ولأن من الصعب أن نوقف هذا الكم الهائل من الأحداث والمعاني التي تحدث كل يوم ، آن الأوان لنستذكر شكلاً آخر من أشكال المعرفةوالمحبة . هذا الشكل الذي لطالما كان وسيلة لبلوغ أقصى أنواع المشاعر والعلاقات تعقيداً . وهذه الوسيلة تشبه غيرها من العلوم والفنون ، بيدأنها تمتاز عنها بقدرتها على تأهيل خيالنا للتعامل مع حيواتنا . وأعني بتلك الوسيلة الشعر .
بعد ذلك ، تعرض ( روكيسر ) تعريفاً لا غنى عنه لطبيعة ومغزى الشعر في وجهة نظر عرضها الفيلسوف والكاتب البريطاني ( آلان دي بوتون) بعد ما يقارب النصف قرن من الزمن . يقول ( بوتون):
” يحمل الفن وعداً بالكمال الداخلي” وفي هذا الصدد تكمل ( روكيسر) حديثها قائلة:
إن الشعر ، فوق كل شيء ، هو مقاربة لحقيقة أحاسيسنا ، ولكن ، ماهي جدوى تلك الحقيقة؟
مهما بدت مشاهد حيواتنا مربكة أو مشوشة ، ومهما كنا، نحن الذين نعيش تلك المشاهد، منهكين ، بإمكاننا مواجهتها والسير لبلوغ الكمال .
تذهب ( روكيسر) إلى اعتبار الشعر فناً يحضى بأقل قبول بين غيره من الفنون . وتعزو ذلك الى ارتباكنا الأبدي أمام عواطفنا . فضلًا عنتشبثنا الخاطئ بفكرة فصل العاطفة عن الفكر.
أما فيما يتعلق بأصل رفضنا للشعر ، والمتمثل بذلك الخوف الذي يعبر عن خلل نفسي ، تقول ( روكيسر):
إن القصيدة الشعرية ليست دعوة فقط ، بل هي ضرورة ملحة . فما الذي تدعو إليه القصيدة ؟
يمكن للقصيدة أن تحرك فينا العواطف والأحاسيس ، بل وربما تتطلب منا استجابة شاملة ، وهذه الاستجابة الشاملة لا نصل إليها إلا عنطريق المشاعر . كما أن القصيدة المكتوبة بعناية غالباً ماتستحوذ على خيال قارئها فكرياً . فعندما تدرك القصيدة فكرياً ، هي تسلك طريقهاإليك عبر المشاعر أو مايمكننا تسميته بالأحاسيس .
ولفهم ذلك ، ينبغي عليك ،عزيري القارئ، أن تلقي نظرة على النسخة الأصلية من رواية( الأمير الصغير )للكاتب الفرنسي( أنطون سانتإكزوبيري ) والصادرة عام ١٩٤٣ ، والتي تنتمي للأدب الكلاسيكي للطفل ، والمكتوبة بلغة شعرية رقيقة تلامس القلب. إذ يقول كاتبها:
سيشرق الأمير الصغير على الأطفال بذلك النور الطاغي الذي سيلمس فيهم شيئاً آخر سوى عقولهم . حتى يأتي للوقت المناسب ليستوعبواماحدث.
وفي العودة إلى أولئك الذين لا زالو يستنكرون الشعر، تمعن ( روكيسر) النظر في ما أسمته ” جذور التواصل” عبر تعريفها للشعر بمايلي:
ينبع الشهر من أعماق ناظمه ، إذ يخيل لقارئ الشعر الحقيقي أن مشاعر الشاعر تخاطب مشاعره .
وبما أننا قد حُرمنا تلك الهبة ، ألا وهي الشعر، تعيد الشاعرة ( روكيسر) صياغة مقولة الرسام الإسباني ( بابلو بيكاسو) الشهيرة ” كل طفلفنان” بطريقتها الخاصة . فهي ترى أن كل طفل هو مشروع شاعر، إذ تقول :
إن ذلك الخوف الذي يجعلنا نرفض الشعر هو خوف متعمق في ذواتنا منذ أواخر مرحلة طفولتنا ، إذ لم نكن نمتلك ذلك الخوف من قبل . فالطفل الصغير لايعرف هذا الخوف لأنه يثق بمشاعره . بيد أن الحواجز تُبنى على عتبات مرحلة المراهقة . أما في سن الرشد ، فغالباً مايرمي الناس الشعر وراء ظهورهم . ولا أعني بذلك المعنى الخرفي للكلمة ، أي كما يتخلص الأطفال من ألعابهم القديمة ، بل أقصد تلكالقناعة الصادمة بكون الشعر يقع خارج نطاق اهتماماتهم .
ولاعجب أن يقوموا بازدراء الشعر أثناء جلوسهم في المقاهي . وهذا الازدراء متأصل فينا جميعاً . لأننا لم نتعلم حب الشعرفي مدارسنا البتة . وهذا ما يجعل ( روكيسر) تكرر عبارة الكاتب الأمريكي ( ريتشارد بوكيمنستر فولر) بشكل شبه حرفي. لتعرض، مرة أخرى، أوجه الشبه بينالعلم والشعر ،حيث تقول:
إن ثقافتنا في التعليم ثقافة تخصصية . فهي تعمل على تزويدنا بمعلومات وخبرات في مجال محدد دون غيره من المجالات . وهذه الخبرةتؤهلنا للتعامل مع مشكلات محددة هي الأخرى . إذ تسمح لنا بمواجهة الواقع العاطفي والواقع الرمزي بشكل خجول .
يمكن لعالم مبتدئ ، أو كاتب محترف أن يتساءل قائلاً : كيف يمكنني الحكم على جودة قصيدة بعينها ؟ بإمكاني الجزم بجودة الأشياءالواقعة في مجال تخصصي ، بيد أنني أجد نفسي غير قادر على الجزم بكون قصيدة ما جيدة أم لا .
أما في الرد على تساؤل كهذا ، فيمكننا القول بأن من قاموا بطرحه هم أناس يفتقرون الثقة بمشاعرهم ورود أفعالهم .
إن فقدان ثقتنا بمشاعرنا هو نوع من أنواع انعدام الشعور بالأمان . ولن نتمكن من التخلص من شعورنا الداخلي بافتقارنا الى الكمال ، إذالم نكن قادرين على دمج كل العناصر المكونة لشخصياتنا من أجل تحقيق التكامل الذي تشكل ملكة تذوق الشعر جزءاً منه .
إن هذا الجمع بين العناصر التي تتحرك سوياً وفق نظام مرئي أصبح واضحاً في كل العلوم ، فلا عجب أن يكون حاضراً في كتاباتنا أيضاً . و أينما وجد، فبمقدوره أن يعطينا نوعاً من الخيال الذي يمكننا من التلاقي مع العالم . كما يعزز قدرتنا على التعامل مع أية وحدة مكونة منعناصر متعددة ، تعتمد في وجودها على بعضها البعض.