الأدب العربي

من أوراقها، رسالة أدبية في الشوق والغياب

غبتُ عنها ليلة ً إثرَ عِتابٍ حدثَ بيني وبينها ، بعدَ أن فاتحتني بكلام ٍ أزعجني قليلاً ، فأحببتُ أن أقطعَ زيارتَها تلكَ الليلةَ ، وكانتْ ليلة ً من ليالي الرّياض ِ القارسةِ البرودةِ ، علَّ ذلكَ أن يبعثَ منها خافيَ الشوق ِ ، ويستثيرَ منها كامنَ الصبوةِ ، فآتتْ تلكَ الخطّة ُ ثِمارها ، وكانَ أوّل قِطافِها هذه الرسالة ُ ، وقد كتبتْها بمدادٍ ورديٍّ ، ووشّحتْهُ قليلاً من عطّرها الأخّاذِ ، ولم تُطقْ حبسَ دموع ِ الحزن ِ وكفّها عن التغلغلِ في ثنايا السطور ِ ، فعدى بعضُ دمعها على بضعةِ أسطر ٍ ، وتمازجتِ العاطفة ُ مع الخوفِ ، والتقى الوجدُ مع البوح ِ ، فخرجتْ هذه الرسالةُ وكأنّما هي قطعة ٌ من قلبها ، ودفقة ٌ من دمها ، ونسمة ٌ من عبير ِ نفَسِها ، فروّتْ غليلي وأرضتْ غروري :

قالتْ :

  • أينَ أنتَ عنّي هذه الليلة َ ؟ .
  • ماذا دهاكَ ؟ .
  • كأنّكَ ما قرأتَ في عينيَّ البارحة َ الشوقَ العظيمَ إلى لقائكَ ؟ .
  • لماذا قطعتَ عنّي وصالكَ ، وأبدلتَ سروري حُزناً ، وضحكي عبرة؟

تفقّدتُ البارحة َ في دولابي أيَّ أثر ٍ لكَ فلم أجدْ ، قلّبتُ طرفي في زوايا حجرتي المبعثرةِ الأغراض ِ ، فلم أقفْ لكَ على أثر ٍ ، نظرتُ في جسمي علّي أجدُ نُدبة ً أو نتوءً بسببِ تصرّفٍ قاس ٍ منكَ فلم أجدْ ، فقد كنتَ ألطفَ وأرقَّ من النسيم ِ ، وأحنى من الأمِّ الرئوم ِ ، حتّى قسوتُكَ الموهومة ُ أصبحتْ عندي مطلباً عزيزَ المنال ِ ! .

لقد جُنَّ جنوني ، وطارَ عقلي ، وفقدتُ صوابي ، أريدُ أي شيءٍ من بقايا أثركَ ، أريدُ سماعَ صوتكَ ، أرغبُ في رؤيةِ وجهكَ ، واستثارةِ عواطفكَ ، أريدكَ أنتَ ! .

لم أجدَ بعدَ مُحاولاتي اليائسةِ البائسةِ ، إلا قطعة ً يسيرة ً من منديل ٍ لكَ ، يبدو أنّكَ نسيتَ قصّتهُ ، ولكنّي ما نسيتُها أبداً ، أتذكرُ حينَ دمعتْ عيني بعدما عاتبتَني مرّة ً ؟ ، فقمتَ بإخراج ِ منديلكَ من جيبكَ ، وفيهِ بقايا عطركَ الساحر ِ ، ومسحتَ دمعتي برفق ٍ وحنانٍ ، فما شعرتُ لحظتها إلا والملائكُ تحملُنا على أطرافِ السحابِ ، وروحي سمتْ تعلو ، وأحسستُ أنّي عروسٌ من الحور ِ زُفّتْ إلى عظيم ٍ من العظماءِ ، في ليلةٍ من ليالي الحبور ِ والسرور ِ .

كم أنتَ رقيقٌ حتى فيما تتركهُ من أثر ٍ لكَ .

لماذا قسوتَ هذه القسوة َ ، وأنتَ منبعُ الطيبِ ، ومجمعُ النبالةِ ؟ .

كانتْ ليلتي البارحة َ أطولَ ليل ٍ مرَّ عليَّ في حياتي وأبأسهُ ، فما برحتْ تعاودني ذكراكَ ، ويهجمُ عليَّ طيفُكَ ، تذكرتكَ وأنتَ تأخذ ُ بواسطةِ عقدي من جسمي ، وتدورُ حولي ويدكَ منّي القمرُ من الأرض ِ في مدارِها ، أوّاهُ ما أجملهُ من مدار ٍ ، وأحلاهُ من فلكٍ ، كنّا نهيمُ فيهِ ونسبحُ ، فلا نضعُ مدى أطرافِنا إلا حيثُ ينتهي منّا الأملُ والحلمُ ، وهل لهذين ِ مدى أو أمدٌ ينتهيانِ عندهُ ؟ .

لا أريدُ من الحياةِ صفوَها فأنتَ صفوُها ، ولا أريدُ من الدنيا راحتَها فأنتَ الراحة ُ ، في قُربكَ الأمانُ ، وحولَ أنفاسكَ السكونُ ، وفي قلبكَ الوطنُ ، وأمّا عينُكَ فهي الزادُ ، ومعينُكَ الرافدُ للمشاعر ِ ينبعُ من حناياكَ .

أنتَ أنتَ من كنتُ أحلمُ فيهِ ، وأرقبُ فجرهُ ونورهُ ، نعم ، أنتَ ذلكَ الرجلُ وضيءُ الوجهِ ، باسمُ الثغرِ ، دافءُ المشاعر ِ ، عذبُ الحديثِ ، الذي كانَ يسرقني من أحلامي إلى عالمهِ الخاصِّ ، ويهيمُ بي على فرسهِ ، ويقطعُ بي حواجزَ الزمن ِ والأيّام ِ ، ونلهو فوقَ مرابع ِ الشيح ِ والقيصوم ِ ، وننتشى بشمِّ الخُزامى والرّندِّ ، ونعبثُ بالأماني ونسخرُ من الواقع ِ ، فهي على رحابةِ جنباتِها واتّساع ِ فضائها ، أضيقُ من كلمةٍ عذبةٍ تخرجُ من بينَ تلكَ الشفاهِ الباسمةِ .

ألا زلتَ عاتباً ! .

أينَ هي تلكَ الضحكاتُ الهانئة ُ الوادعة ُ ، والتي كانتْ تبدّدُ سكونَ الليل ِ ، وهدأة َ الدّجى ، وأينَ هي تلكَ العيونُ الصارخة ُ ، فقد فعلتْ بي ما عجزَ عنهُ سحرة ُ بابلَ ، صيّرتني لكَ جارية ً ، بكَ مجنونة ً ، فيكَ هائمة ً ، عليكَ والهة ً ، وحتّى أكونَ صادقة ً معكَ لقد صنعتْ منّي روحاً جديدة ً حلّتْ في جسدكَ ، فصارَ غيبي معكَ شهادة ً ، وحُلمي فيكَ حقيقة ً وواقعاً .

لقد كنتُ أنتظركَ البارحة َ وأنا أرتدي ذلكَ الثوبَ الأبيضَ ، أتذكرهُ ؟ ، كنتُ أخرجُ بهِ مزهوّة ً مفتخرة ً ، هذه هدايا حبيبي ، كنتُ لا أرى فيهِ أنّي من البشر ِ ، بل خلقاً جديداً ، وروحاً لا تعرفُ قراراً واستقراراً ، ذلك الثوبُ الأبيضُ الذي يُشبهُ سريرتكَ في نقائها ، وقلبكَ في صفائهِ ، يا من كملُتْ فيكَ المعاني ، وتزيّنتْ بكَ المآثرُ .

كنتُ طفلة ً مُدلّلة ً حينَ أتذكّرُ موعدكَ ، أتصرّفُ بكبرياءٍ ، أنادي بأنفةٍ ، بعدَ دقائقَ يسيرةٍ بين يديَّ حبيبي ، فمن مثلي من البشر ِ ؟ ، من الذي سيحفلُ بروح ٍ أخرى تُساكنهُ وتُخالطهُ مثلي ؟ ، أنا وحدي كنتُ حالمة ً وشاعرة ً ، لا أعرفُ من معاني الشعر ِ وكلماتِ الحبِّ إلا ما تتحرّكُ بهِ شفتاكَ ، وما تُرسلهُ عيناكَ ، كنتُ أقرأ في دفقاتِ أنفاسكِ الحرّى معاني العشق ِ الدفينةِ ، تلكَ المعاني التي أعادتْ أمجادَ هلويز مع الراهبِ أبيلار ، وبياتريشه مع دانتي ، وسالومي مع نيتشه ، وأعادتْ ليلى مع قيس ٍ ، وآخرونَ في صفحاتِ التاريخ ِ نُسيتْ أخبارهم وطويتْ ذكراهم ، حتّى جدّدها حبّكَ ، وأذاعها شوقُكَ ، فأنتَ ساعة ُ ميلادِ الهوى ، وانبعاثُ روح ِ العشق ِ الأصيلةِ .

أنسيتَ تلكَ التي إذا حظيتْ منكَ بساعةِ وصل ٍ ، غادرتْ عقلها مع أوّل ِ جفن ٍ يرعشُ لرؤيةِ خيالكَ ، وأوّل ِ دفقةِ عطر ٍ تنسابُ من عبيركَ تُداعبُ حواسّها ؟ ، فكيفَ إذا خامرتني منكَ كلماتُ الترحيبِ والتسليم ِ ، وما هو شعوري إذا امتدَّ اللقاءُ وصارَ كلامُ العواطفِ ينسابُ بيننا كجدول ٍ رقراق ٍ يختالُ ملتوياً صبّاً في بُستان ٍ من الوردِ والزهر ِ .

يا للذّةِ الكلام ِ العاطفيِّ حينَ يُداعبُ مسامعي ، ما أجملَ حروفكَ وهي تخرجُ مختالة ً من بين ِ ثناياكَ الساحرةِ ، تتهادى في زهو ٍ وتتبخترُ في شمم ٍ ، فما تلبثُ أن تُلامسَ أذني حتّى تذوبَ كما يذوبُ الثلجُ مع حرارةِ الشمس ِ ، تمنّيتُ لو أنَّ لديَّ ألفَ أذن ٍ لتنعمَ كلُّ واحدةٍ منها بحديثكَ .

آه ما أطولَ الثواني في غيابكَ ! .

وما أبطأ الساعاتِ في تأخّركَ ! .

ليتَ لي جناحان ِ تحملاني إليكَ ، فالأرضُ تطوى حينَ المسيرَ إلى حبيبي ، والأميالُ تقصرُ حينَ أمتطي صهوة َ الغرام ِ والهيام ِ في طريقِها إلى فاتني وساحري .

أي جفن ٍ لي يهنأ الليلة َ بمنام ٍ ، أو رمش ٍ يسكنُ في دعةٍ وهدوءٍ ، ودواءُ الرّوح ِ وبلسمُ الجروح ِ غيرُ راض ٍ عنّي وعليَّ عاتبٌ ؟ .

لمَ تُعذّبُ مجنونتكَ ، وأنتَ تجري في كلِّ دفقةٍ من دمها ، وتسكنُ في خلايا جسمها ، تُشاكلُ الروحَ ، وتُسامرُ العقلَ ، والقلبُ إن خفقَ فإنَّ اسمكَ هو وقعُ خفقاتهِ وصدى صوتهِ ، أتعاقبُ من جعلتْ منكَ آمرها وناهيها ؟ ، أتعاقبُ من وهبتكَ سلوتها وراحتها ، وجعلتْ منكَ هواءها وماءها ؟ .

كيفَ لي أن أنسى تلكَ الرعشاتِ الدافئة َ ، واللحظاتِ الهانئة َ ، وأنتَ تهمسُ في أذني قائلاً : كيفَ أمسيتِ يا حبيبتي ؟ ، كنتُ أدوخُ ساعتَها وأهذي ، أغيبُ عن الوجودِ وأعيشُ فوقَ العالم ِ ، أحسُّ أنّي نشوى وسكرى ، أهذا هو الحبُّ ! ، لا أدري واللهِ ، ولكن ما أعرفهُ حتماً هو أنّني ما عرفتُ طعماً للحياةِ إلا عندما سمعتُ منكَ كلمة َ : حبيبتي .

ياه ، حبيبتكَ ! ، حقّاً أنا محظوظة ٌ ، أهذه أنا ، أكنتُ أوّل مخلوقةٍ ظفرتَ بقلبكَ ؟ ، هكذا قلتَ لي يوماً ، كم كنتُ غبيّة ً حينَ رأيتُكَ أوّلَ مرّةٍ فدُهشتُ ! ، نعم دُهشتُ ، كانتِ الدهشة ُ لي درساً لمعرفتكَ ، هكذا علّمتني أنتَ أنَّ أرسطو جعلَ أوّلَ المعرفةِ الدهشة َ ، ولكنْ معكَ تمنّيتُ لو كانتِ الدهشة ُ معرفة ٌ ووصلاً ، تمنّيتُ لو كنتُ في أوّل ِ ليلةٍ رهينة َ أمركَ ، فأنا الآن أعرفُ معنى أن أكونَ أسيرة ً في قبضةِ من جرحهُ لا يُدمي ولا يُؤلمُ .

لن أستعيضَ عنكَ شيئاً ، ولن أقبلَ لكَ بديلاً ، فمن يعتاضُ عن الصحّةِ ويبتغي بدلاً للسعادةِ واللذةِ ؟ .

أرجوكَ عُدْ ، فأنا بدونكَ لا أسوى شيئاً ، ومشاعري ماتتْ بعدَ آخرِ لمسةٍ حانيةٍ من أناملكَ لامستَ يدي ، أتذكّرُها جيداً ، كنتَ أنتَ مودّعي قائلاً : لعليِّ غداً أتأخّرُ قليلاً ، قلتَها أنتَ وألبسْتَها قناعَ الجفوةِ ، فأحسستُ بمرارةِ الأسى في حلقي ، حاولتُ أن أدفعَ عنّي حرارة َ تلكَ الكلمةِ فعجزتُ ، كانتْ كشعلةٍ من اللهبِ انتصبتْ أمامَ وجهي ، أنستني وقعَ الزمهرير ِ على مساماتي وجلدي ، وأصابتني الحمّى فجأة ً ، وأخذَ العرقُ يتحدّرُ من وجهي ، آه ، حبّاتُ العرق ِ ، أتذّكرُ حينَ كنتَ تقولُ لي : أهذهِ حبّاتُ عرق ٍ ، أم درٌّ وجمانٌ تحدّرَ من جبينكِ الأزهرِ ! .

ياه ، ما أعذبكَ وألطفكَ ، وما أرقكَ وأرقَّ طيفكَ .

لم يرحمني طيفُكَ ، وألهبني عِتاباً وتوبيخاً ، كنتَ أراكَ وأنتَ تحملُ تلكَ الوردةَ الحمراءَ ، وتوقدُ الشمعة َ الصفراءَ ، وتضعُ الوسادة َ والمتكىءَ ، ثمَّ تميلُ كغصن ِ بان ٍ مالَ مع هبّاتِ نسيم ِ الأصيل ِ ، وتُرسلُ كلماتكَ اللطيفة َ كما تُرسلُ الوردُ عبيرَها ، وكنتَ تنقّلُ عينكَ على حمايَ الآسر ِ – كما وصفتني – كما تنتقلُ النحلة ُ من زهرةٍ لأخرى ، ومن حديقةٍ لحديقةٍ .

قلّي بربّكَ ماذا يبقى وقتَها من قوايَ لا يخورُ ؟ ، ومن قسوتي لا يلينُ ؟ .

يا شمعة َ الحياةِ ، ويا زهرة َ الوجودِ ، يا من هو أرقُّ من مرِّ النسيم ِ ، وأعذبُ من زلال ِ الماءِ الباردِ على الكبدِ الصادي ، يا من هو الأملُ ، يا دفقة ً من حنان ٍ ، ونسمة ً من روض ٍ ، يا عقيلَ الروح ِ ، ويا دفءَ العاطفةِ ، أتُرى قسى قلبُكَ على من باعتْ الدنيا لتشتري رَضاكَ ، ومن أرخصتْ ما غلا ليكونَ تراباً تطأ عليهِ رجلاكَ ، هي أنتَ وأنتَ هي ، أفتقسو على روح ٍ ساكنتْ جسدكَ ، ودم ٍ مازجَ دمكَ ! .

ترفّقَ بي ، فأنتَ الحياة ُ ، وبُعدكَ المماتُ .

حبيبتُكَ المُتيّمة ُ بكَ .

ملاحظة ٌ : هذه الكلماتُ من وحي الخيال ِ المُجرّدِ ، وعفو ِ الخاطر ِ ، كتبتُها على عجل ٍ في دقائقَ معدودةٍ ، ولم يتيسّرْ لي مراجعتها إلا لماماً ، ولا تحملُ في ثناياها معنىً إلا ما قصدتُ بهِ من ترويض ِ القريحةِ والقلم ِ في الكتاباتِ العاطفيّةِ ، لعلّي أقفُ على ناقدٍ أو مُعلّم ٍ ، يقفُ بي على مناراتِ القوم ِ وصواهم ، ويهديني سواءَ السبيل ِ في فقهِ الطائفة ِ ، فأنا خلوٌ من العاطفةِ ، عار ٍ من المشاعر ِ ، ولكنَّ القلمَ غادرٌ ، لا يفي بوعدهِ لي أن لا يُجاوزَ سننَ الكتابةِ الهادفةِ ، وهو على ما يبدو كبا الآن وحادَ عن الجادّةِ ، وسلكَ إلى بنيّاتِ الطريق ِ ، فما أشقاهُ وأضناهُ ! .

أتمنّى أن تحوزَ هذه المُشاركة على رِضاكم ، واللهُ يحوطكم ويرعاكم .

أخوكم : فتى الأدغال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى