إضحاك الأطفال على أبي خرشة الدجّال
طالعتنا أمس ِ جريدة ُ الوطن ِ بمقالةٍ فريدةٍ في طِرازِها ، للكاتبِ المنتكس: خ. غ عنونَ لها باسم ِ ” الصراع ِ الدّينيِّ السياسيِّ ” ، وهو عنوانٌ تفوحُ منهُ رائحة ٌ نتنة ٌ ، في إشارةٍ منهُ إلى فصل ِ هذه عن تلكَ ، وجاءتِ المقالة ُ مليئة ً كذباً وزوراً ، وكُتبَت بلغةٍ عقيمةٍ وصياغةٍ باهتةٍ ، وتجلّتْ فيهِ بوضوح ٍ الحالة ُ المرضيّة ُ التي يعيشُ عليها الكويتبُ – شفاهُ اللهُ – ، والذي يُعاني من عقدةِ التوحّدِ ، ومرض ِ اضطرابِ الشخصيّةِ الهستيريّةِ ” Hysterionic Personality Disorder ” .
ومن أعراض ِ هذا المرض ِ : التذبذبُ السريعُ وكثرة ُ التقلّباتِ العاطفيّةِ والسلوكيّةِ ، ومحبّة ُ الأنانيّةِ ، ورغبة ُ الظهور ِ واستجلابُ الاهتمام ِ والمحاولة ُ الدائبة ُ لاسترعاءِ الانتباهِ ، وحبِّ الاستعراض ِ ، ومن الملامح ِ الثابتةِ للشخصيّةِ الهستيريّةِ أنّها قادرة ٌ على الهروبِ من مواقفَ معيّنةٍ عبرَ التحلّل ِ السريع ِ والمفاجئِ من شخصيّتهِ الأصليّةِ ، وتقمّص ِ شخصيّاتٍ أخرى تتلاءم مع الظروفِ الجديدةِ ، ويوجّهُ أطباءُ علم ِ النّفس ِ دوماً إلى وجوبِ تنحيةِ أمثال ِ هذه الشخصيّاتِ عن المهامِّ القياديّةِ وأعمال ِ التخطيطِ ، ويرونَ أنَّ أفضلَ المهن ِ لهم هي مهنة َ الصحافةِ !! – التفاصيلُ في كتبِ علم ِ النفس ِ والصحّةِ النفسيّةِ – .
لا شكَّ أنَّ كثيراً من الجرائدِ باتتْ تبحثُ عن الكاتبِ المُهرّج ِ ، والذي يُثيرُ الزوابعَ ويبحثُ عن الإثارةِ ، ولم يعُدِ المُتابعُ يفرّقُ بينَ أغنيةٍ راقصةٍ ، وبين جريدةٍ ثقافيةٍ ، فالجميعُ يعمدُ إلى العهر ِ واللاأخلاقيّةِ ، تلكَ بعرض ِ جسدِها ومفاتِنها، وهذهِ ببعدِها عن الموضوعيّةِ والحيادِ ، ونشرِها للكذبِ والباطل ِ .
لم أكنْ أتوقّعُ أن ينحدرَ صاحبنا إلى هذا المستوى من الضمور ِ الفكريِّ ، وإلى هذا الدركِ من التبجّح ِ بالكذبِ ، فقد أفسدَ ذائقة َ القرّاءِ بمقالتهِ السامجةِ ، المملوءةِ إفكاً مفترىً ، حيثُ جعلها مسرحاً لإسقاطِ رؤيتهِ الفكريّةِ ومنطلقهِ الثقافيِّ ، على أمور ِ الشريعةِ وأحكام ِ الدّيانةِ ، واستعملَ في ذلكَ طريقة الانتقاءِ المُتعمّدِ ، لمجموعةٍ من الآثار ِ والأخبار ِ ، ثمَّ اختلقَ لها قصصاً من عندهِ لفّقها عمداً ، وأجراها في سياق ٍ واحدٍ مع أحكامهِ المسبقةِ ، لتكونَ نسقاً مترابطاً ، عِللٌ وأحكامٌ ، أو مُقدّماتٌ ونتائجُ ، بينما هي في حقيقةِ الأمر ِ هباءٌ منثورٌ .
كانتْ بداية ُ المقالةِ موحية ً بأنَّها ستحفلُ بالتناقض ِ والخلطِ ، إذ جعلَ الإيمانَ باللهِ نهاية َ ما يصلُ الإنسانُ إليهِ في حياتهِ ، وكأنَّ الإيمانُ أمرٌ يخضعُ للتجربةِ أو النظر ِ ، أو يُقدّمُ بينَ يديهِ الشكُّ والترقّبُ ، وهذه طريقة ُ الفلاسفةِ المخذولينَ ، ومن مشى على نهجهِ من أهل ِ الكلام ِ ، وأمّا المسلمُ فهو في غنىً عن ذلكَ ، لأنَّ أوّلَ محطّاتهِ في الحياةِ الدّنيا هو الإيمانُ ، وليستْ آخرهُ .
لُبُّ المقالةِ يدورُ حولَ تنافس ِ السلاطين ِ والفقهاءِ في الاستحواذِ على قلوبِ الجماهير ِ ، وجعلَ من صلاةِ الجماعةِ والجمعةِ في المسجدِ إطاراً لمقالهِ ، فذكرَ أنَّ خروجَ النّاس ِ إلى صلاةِ الجماعةِ في المساجدِ ، إنّما كانَ خوفاً من ملاحقةِ السلاطين ِ ، والذين كانوا يُخرجونَ النّاسَ إلى الصلاةِ قسراً ، ليُلزموهم فيها السماعَ إلى ما يخطبونَ بهِ وينشرونهُ ، وأنَّ هذا نوعٌ من بسطِ السيطرةِ والنفوذِ على الدّين ِ ، والذي هو في أصلهِ دينٌ سهلٌ متسامحٌ ، وإنّما أفسدَ سماحتهُ الفقهاءُ والولاة ُ !! .
ويكفي في الرّدِّ على هذا الكذبِ والافتراء ِ ، أنَّ الذين نقلوا وجوبَ الصلاةِ جمعة ً وجماعة ً في المساجدِ ، والذين ألزموا النّاسَ بالصلاةِ خلفَ الإمام ِ ولو كانَ فاسقاً فاجراً ، هم العلماءُ والفقهاءُ من الصحابةِ والتابعينَ ومن بعدهم ، وهؤلاءِ أنفسهم هم الذين وقعوا ضحيّة ً لجور ِ وظلم ِ السلاطين ِ ، بل هم الذين وقفوا في وجوهِ الظلمةِ والعتاةِ من المجرمينَ على مرِّ العصور ِ ، وأمّا السلاطينُ والولاة ُ فهم الذين كانوا يحتاجونَ لأهل ِ العلم ِ وإلى ما في أيديهم من العلم ِ ، والتأريخُ واضحٌ في الدّلالةِ على هذا الأمر ِ .
وأمّا ولاية ُ السلاطين ِ للجمعةِ والجماعةِ فهذا من واجبِهم ، وقد كانتِ الجمعة ُ إنّما تُقامُ في مسجدٍ واحدٍ ، وثمتَ نهْيٌ عن تعدِّ الجمع ِ ، ولذلك عللٌ ومصالحُ ذكرها الفقهاءُ ، ولهذا صارَ من يخطبُ ويُصلّي هو الإمامُ ونائبهُ ، لأنّها داخلة ٌ في ولايتهِ التي يختصُّ بها .
واستدلَّ على ذلكَ بمجموعةٍ من الآثار ِ ، لا علاقة َ لها بما يقرّرهُ ، نقلها من مصنّفاتِ عبدِ الرزّاق ِ وابن ِ أبي شيبة َ – رحمهما اللهُ – ، أمّا الأوّلُ فهو في حرّاس ٍ لأحدِ الأمراءِ بمكّة َ – شرّفها اللهُ – كانوا يقومونَ بتقويم ِ الصفِّ ، فزعمَ صاحبناأنّهم إنّما كانوا يقومونَ بحراسةِ المسجدِ حتّى لا يخرجَ من المسجدِ أحدٌ !! ، والأثرُ موجودٌ في مصنّفِ عبدِ الرزّاق ِ ، وليسَ فيهِ هذا الأمرُ ، بل إنَّ عبدَ الرزّاق ِ ذكرهُ في أبوابِ الصفوفِ وتسويتِها ، وأنَّ هذا كانَ من الأمور ِ المُعتنى بها في الصدر ِ الأوّل ِ من الإسلام ِ ، فجاءَ صاحبناوافترى للأثر ِ قصّة ً ، ونسجَ لها مناسبة ً ، لوى بها عنقَ الأثر ِ والقصّةِ ، حتّى توافقَ مزاعمهُ .
والأثرُ الآخرُ أخرجهُ ابنُ أبي شيبة َ في مصنّفهِ ، وأتى بهِ صاحبناشاهداً على دعواهُ بأنَّ الأمراءَ كانوا يُجلسونَ النّاسَ بالقوّةِ في المساجدِ ، مع أنَّ الأثرَ ليسَ فيهِ دلالة ٌ على ذلكَ مُطلقاً ، بل إنَّه أغفلَ عمداً وتلبيساً ما بوّبَ لهُ ابنُ شيبة َ حينَ إيرادهِ للأثر ِ ، حيثُ قالَ ” الجمعة ُ يؤخّرها الإمامُ حتّى يذهبَ وقتُها ” ، وهذا التبويبُ يبيّنُ وجهَ خروج ِ محمّدٍ من الصلاةِ ، وهو أنّهُ خشيَ خروجَ الوقتِ ، وجرحهُ ليدهِ حتّى يكونَ لهُ مسوّغٌ في الخروج ِ دونَ لحوق ِ اتهام ٍ لهُ .
ولا أدري كيفَ يُمكنُ لعاقل ٍ سويٍّ أو يقتحمَ غِمارَ هذا الخطل ِ !! ، ألا يخشى من سقوطِ نفسهِ من أعين ِ النّاس ِ ؟ ، أم أنّهُ هوِيَ الشتمَ وكلِفَ بالحطِّ عليهِ ، فصارَ يبحثُ عنها دوماً ، ويتقصّدُ الكذبَ لأجلِها ؟ .
بل إنّهُ كذبَ كِذبة ً كُبرى حينَ زعمَ أنَّ الإمامَ مالكاً تركَ الجمعة َ والجماعة َ لمّا رأى الخلافاتِ السياسيّة َ ، وهذا كذبٌ واضحٌ على الإمام ِ مالكٍ ، وقد نُقلَ عن مالكٍ أنّهُ تركَ الجمعة َ والجماعة َ فترة ً ، والخبرُ تفرّدَ بذكرهِ الواقديُّ ، وقد قالَ الشافعيُّ عن الواقديِّ : عامّة ُ كتبهِ كذبٌ ، كما أنَّ في آخر ِ الخبر ِ ما يُشيرُ إلى أنَّ تركَ مالكٍ للجمعةِ والجماعةِ إنّما كانَ لعذر ٍ ، حيثُ قالَ : ” ليسَ كلُّ أحدٍ يقدرُ أن يتكلّمَ بعُذرهِ ” ، وذكرَ العلاّمة ُ إحسان عبّاس نقلاً عن إحدى نسخ ِ كتابِ ” وفياتِ الأعيان ِ ” أنَّ تخلّفَ الإمام ِ مالكٍ إنّما كانَ بسببِ إصابتهِ بسلس ِ البول ِ ، وأنَّ مالكاً كانَ يقولُ : لا يجوز ُ أن أجلسَ في مسجدِ الرسول ِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ ، وأنا على غير ِ طهارةٍ ، فيكونُ ذلك استخفافاً .
ومهما يكُنْ من أمر ٍ ، فإنَّ مالكاً كانَ من أعبدِ النّاس ِ ، والخبرُ يحتاجُ إلى توثيق ٍ وبحثٍ وافٍ ، ولم أجدْ من ذكرهُ غيرَ ابنَ سعدٍ عن الواقديِّ ، وعنهُ نقلَ النّاسُ ، ولم يقعْ في شيءٍ من المصادر ِ أنَّ مالكَ فعلَ ذلكَ هروباً من الخلافاتِ السياسيّةِ ! ، أو أنَّ الخلافَ السياسيَّ مسوغٌ لتركِ الجمعةِ ! ، وكيفَ يقولُ الإمامُ مالكٌ ذلكَ وهو يروي في موطئهِ حديثَ ” من تركَ ثلاثَ جمعاتٍ ختمَ اللهُ على قلبهِ ” ! ، ومذهبهُ قائمٌ على أنَّ الجمعة َ فرضٌ عين ٍ ، بل إنَّ مالكاً كانَ يدخلُ على الأمراءِ والسلاطين ِ ، ويعظهم ويذكّرهم ، كما نقلَ ذلكَ أبنُ أبي حاتم ٍ والقاضي عياضٌ وغيرهم ، فإذا كان لا يمتنعُ من الدخول ِ على الولاةِ مُباشرة ً ، فهل يُعقلُ دعوى من يقولُ : أنّهُ امتنعَ من الصلاةِ جمعة ً وجماعة ً بسببِ التأزماتِ السياسيّةِ ! .
وبلغَ تلبسيهُ وافتراءهُ حدّاً فقدَ معهُ الاحترامَ حينَ ذكرَ أنَّ عمرَ بن ِ عبدِ العزيز ِ لم يتركْ عادة َ من خلفهُ من الخلفاءِ ، بإلزام ِ النّاس ِ بالصلاةِ جمعة ً وجماعة ً في المساجدِ ! : ” وكان الملوك والأمراء العادلون إذا تولوا، يظنون أن هذه الإضافات جزء مما يجب عمله، وقصة تأخير عمر بن عبد العزيز الصلاة عن وقتها خير دليل على ذلك ” ، فعمرُ بنُ عبدِ العزيز ِ في نظر ِ هذا المريض ِ كانَ جاهلاً بهذهِ الأمور ِ ، وانطلتْ عليهِ سُننُ أولئكَ ولم يُميّز ِ السنّة َ من البدعةِ ، حتّى جاءَ المُنقذ ُ المُخلّصُ صاحبنا، وكشفَ الحقيقة َ !! .
ولا أدري كيفَ يجترئُ على مثل ِ هذا الكذبِ المفضوح ِ ، وبل ويُخالفُ السنّة َ الثابتة َ عن النبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ ، والتي نقلها علماءُ وقعوا ضحيّة َ ظلم ِ السلاطين ِ ، ولم يكونوا يوماً من أعيانهم ، لتنفكَّ عن هذهِ الأحداثُ فرضيّة ُ وضع ِ السلطان ِ لها ، وهي التي تدلُّ على وجوبِ الصلاةِ جماعة ً ، ووجوبِ حضور ِ النّاس ِ إلى المساجدِ ، وأنَّ تفقّدَ النّاس ِ في الصلاةِ مشروعٌ ، وأنَّ المتخلّفَ عنها في الجماعةِ مطعونٌ في دينهِ مشكوكٌ في أمرهِ مُستحقٌّ للعقابِ ، وأنَّ صلاة َ الجمعةِ والجماعةِ إنّما يليها الإمامُ الأعظمُ أو نائبهُ ، في أحاديثَ أخرى كثيرةٍ ، تهدمَ بُنيانَ الكذبِ الذي بناهُ هذا المُختلقُ الدجّالُ .
واتصلَ بهِ حبلُ الكذِبُ إلى مدىً لا يُطاقُ ، حينَ جعلَ الفقهاءِ يُشاركونَ العامّة َ في محاولةِ بسطِ النّفوذِ على العامّةِ ، والحربِ من أجل ِ كسبِ التّعاطفِ ، وأنّ الفقهاءَ كانوا يُحاربونَ الجديدَ والغريبَ ، وكيفَ أنّهم لم يكونوا يفقهونَ شيئاً في أبوابِ الاجتماع ِ والاقتصادِ والسياسةِ ، ويضطرونَ لسدِّ ضعفِهم في هذه العلوم ِ إلى إصدار ِ فتاوى وأحكام ٍ استجابة ً لضغوطِ الجماهير ِ ، دونَ درايةٍ بهذهِ العلوم ِ ، أي بالمختصر ِ المفيدِ : كانوا يكذبونَ على النّاس ِ ، ويقولونَ على اللهِ ما لا يعلمونَ .
وإنّي واللهُ لأتعجّبُ كيفَ يمكنُ لشخص ٍ لا يزالُ في مقتبل ِ العمر ِ ، أن يتتبّعَ القرونَ الأولى وعلماءها ، ويستعرضَ أخبارهم وسيَرهم ، ليحكمَ عليهم بعدَ ذلكَ بهذا الفشل ِ الذريع ِ في العلم ِ ، وأنّهم لم يكونوا إلا مجموعة ً متعطّشة ً للبروز ِ والظهور ِ وكسبِ ولاءِ الجماهير ِ ، ولو بصياغةِ الكذبِ وليِّ أعناق ِ النّصوص ِ ! ، وإنّي حالفٌ غيرَ حانثٍ – إن شاءَ اللهُ – أنَّ هذا الدّاءَ هو داءُ صاحبنا– حبُّ البروز ِ والظهور ِ بالكذبِ والافتراءِ – ، وإنّما أسقطهُ على الآخرينَ ليُظهرَ نقاءَ نفسهِ وحُسنَ سريرتهِ ، وأنّهُ باحثٌ عفٌّ نزيهٌ ، وأمّا العلماءُ الأعلامُ الذين درسوا العلمَ وأفنوا فيهِ سنيَّ عصرهم ، فلم يكونوا إلا حفنة ً تبحثُ عن رضا الجماهير ِ ، وتضطرُ للكذبِ والتزيّدِ من أجلِها .
وبلغتْ بهِ الهستيريّة ُ مبلغاً عظيماً ، حينَ جعلَ الفقهاءَ في كلِّ زمان ٍ ومكان ٍ مجموعة ً من المكفراتيّةِ ، شأنُهم تفكير بعضِهم بعضاً !! ، ولا يتردّدونَ في الوقتِ نفسهِ في التعاطي مع الطواغيتِ ، بل والتشريع ِ لهم !! ، إذن هم مجموعة ٌ من الوصوليينَ النفعيينَ ، همُّ أحدهم الوصولُ إلى منصبٍ رفيع ٍ لدى السلطان ِ ، وأمّا الدّينُ والشرعُ فهم فيهِ حربٌ بعضُهم على بعض ٍ ، وبلغَ من موضوعيّتهِ وحيادهِ في البحثِ ، أنّهُ أعرضَ عن آثار ِ القرون ِ السالفةِ جميعِها ، وهي التي تقرّرُ بُعدَ العلماءِ وتجافيهم عن السلاطين ِ ، خاصّة ً أصحابنا من الحنابلةِ ، وكيفَ وقعوا رهنَ السجن ِ والنفي والقتل ِ ، ورفضوا القضاءَ ، وكيفَ كان علماءُ السلفِ لا يدخلونَ على الأمراءِ ، بل ويأمرونهم بالمعروفِ وينهونهم عن المنكر ِ ، ولو أدّى ذلكَ إلى قتلهم ، حتّى أصبحَ النّاسُ إذا أرادوا ذمَّ عالم ٍ وصفوهُ بأنّهُ من علماءِ السلاطين ِ ، تركَ كلُّ ذلكَ ، وكلَّ الأسفار ِ العريقةِ العظيمةِ ، لينقلَ صورة ً مُناقضة ً لذلكَ عن الرّافضيِّ الهالكِ : عليّ الورديّ !! .
يا للسذاجةِ ! ، حكمٌ على الفقهاءِ في كلِّ زمان ٍ ومكان ٍ ، يقتنصهُ الباحثُ من كتابٍ في القرن ِ الرابع ِ عشر لأحدِ الرافضةِ ! .
وهذا الرّجلُ من حماقتهِ وقلّةِ توفيقهِ ، قامَ يُحاربُ جميعَ طبقاتِ المجتمع ِ الفاعلةِ في مقالتهِ المأفونةِ ، إذ هاجمَ الأمراءَ والحكّامَ ، وسمّاهم طواغيتاً ، ووضعَ وضعاً مُنكراً على الفقهاءِ والعلماءِ ، وهل هناكَ إسقاطٌ لدولةٍ أو منهج ٍ ، أعظمُ من إسقاطِ رجالها وحماتِها ؟ ، فماذا بقيَ من الإسلام ِ إذن ؟ ، فإذا كانَ الأمراءُ طواغيتاً ، والفقهاءُ مكفّرونَ ، ويبيعونَ دينهم بعرض ٍ قليل ٍ من الدّنيا ، فأينَ هو الإسلامُ ؟ ، وأين استقرَّ ؟ ، ومن الذي نشرهُ ؟ .
إنَّ هذا الكلامَ لا يقولهُ إلا أعدى أعداءِ الإسلام ِ وأحقدهم على الدّين ِ ، من الزنادقةِ والماركسيينَ والمادّيينَ والعلمانيينَ ، وذلك ليُحدثوا الشكَّ في النّفوس ِ ، ويهدموا معالمَ الدّين ِ الحقِّ ، ليُشعلوا فتيلَ ثورةٍ جديدةٍ على الدّين ِ كثورةِ فرنسا ، والتي كان منبعها التشكيكُ في النصرانيّةِ .
يا أخي ترفّق قليلاً ، فما هكذا يكونُ الانسلاخُ من الدّين ِ ، ولا هكذا تكونُ الزندقة ُ ، فأكلُ العنبِ إنّما يكونُ حبّة ً حبّة ً ، وليسَ بأن تخلعَ عنّكَ جبّة َ الدّين ِ ، وتُردّدَ كالببغاءِ ما كتبهُ ونشرهُ الحاقدونَ على الإسلام ِ ، وليتكَ كنتَ في ذكاءهم فأحسنتَ البحثَ وعفّيتَ أثرَ الكذبِ ، ولكنْ أبتْ عليكَ شقوتُكَ إلا أن تكذبَ ، وتختلقَ الأخبارَ لتروّجَ لما تُريدُ .
وقد كنتُ أظنُّ أنَّ حسنَ فرحان المالكيَّ ، الزيديَّ المُعتزليَّ المُحترقَ هو أكذبُ أهل ِ العصر ِ ، فإذا بصاحبنايُزاحمهُ بالرّكبِ ، ويُصاكّهُ بالمنكبِ ، فباتا كفرسي رهان ٍ في ميدان ِ الكذبِ والزور ِ ، ولا يزالُ الرّجل ِ يكذبُ ويتحرّى الكذبَ ، حتّى يُكتبَ عندَ اللهِ كذّاباً ، ولم يعرفِ المسلمونَ وصفاً نبيلاً ثابتاً لرجل ٍ كما عرفوا لأبي بكر ٍ ، فهو الصدّيقُ ، ولم يعرفوا وصفاً وضيعاً ثابتاً لرجل ٍ كما عرفوا لمسيلمة َ ، فهو الكذّابُ ، ويبدو أنَّ لمسيلمة َ منافسينَ آخرينَ ! .
للفقهاءِ والعلماءِ صورٌ مُشرقة ٌ في مجال ِ الزهدِ والورع ِ والبعدِ عن الأمراءِ والوزراءِ ، مع بذل ِ النصيحةِ لهم ، ولم يكُنْ أهلُ العلم ِ يبحثونَ عن شهرةٍ أو مجدٍ أو حظوةٍ لدى النّاس ِ ، كيفَ وكثيرٌ منهم حرقَ كتبهُ وامتنعَ عن الرّاويةِ ، ومنهم من جلسَ في بيتهِ وهجرَ الناسَ واعتزلَ ، ومنهم من رابطَ في الثغور ِ وأراض ِ الرّباطِ حتّى قُتلَ شهيداً ، وكثيرٌ منهم أحبهُ النّاسُ على فقرهِ وقلّةِ حظّهِ من متاع ِ الدّنيا ، مع أنَّ يدَ السلطان ِ كانتْ نفّاحة ً ، والخوفُ منهُ على قدم ٍ وساق ٍ ، ومع ذلكَ كانت راية ُ العلماءِ هي الخفّاقةِ ، وأطبقَ النّاسُ جميعاً على الثناءِ عليهم ، والرّضا بهم ، والدليلُ على ذلكَ هو جنائزهم التي كانَ يخرجُ فيها عددٌ مهولٌ من النّاس ِ ، لا يرجونَ مالاً ولا منفعة ً أو يُصانعونَ أحداً .
وحتّى تعلموا – معاشرَ القرّاءَ – كيفَ يعيشُ صاحبُنا ويُفكّرُ ، لاحظوا مبلغَ التناقض ِ الذي يعيشهُ ، فهو في مقالةٍ واحدةٍ لم يكدْ ينتهي من أوّلها إلا ونقضها على أمِّ رأسها في منتهاها ، فبينما هو في بدايتِها يُقرّرُ أنَّ للفقهاءِ مواقفَ مناوئة ً للحكّام ِ تدلُّ على أنَّ الجمعة َ والجماعة َ كانتْ من سياسةِ السلاطين ِ وإفرازاتِ صراعاتِهم السياسيّةِ ، إذا بهِ في آخرِها يُقرّرُ أنَّ الفقهاءَ في كلِّ زمان ٍ ومكان ٍ يتحالفونَ مع أكثر ِ الطاغوتِ طاغوتيّة ً ، ويصفونهُ بالرئيس ِ المؤمن ِ أو أمير ِ المؤمنينَ .
هذه المقالة ُ على قِصرَ محتواها تشرحُ لنا حقيقة َ حال ِ هؤلاءِ ، والذين لا يُمكنهم نشرُ مذهبهم إلا بعدَ أن يكذبوا ويفتروا ، ليلبّسوا على النّاس ِ ، كما أنّهم على استعدادٍ لصياغةِ أغربِ أنواع ِ الكذبِ ، وأقذر ِ صور ِ الافتراءِ ، لتروجَ أفكارُهم وتشتهرُ ذواتُهم ، ونحنُ نرثي لحال ِ هؤلاءِ المُنتكسينَ ، والذين لم يجنوا من انتكاستِهم إلا الفضيحة َ والعارَ ، فلا هم بالذين ثبتوا على ديانتِهم وستروا سوءة َ جهلهم بظاهر ٍ صالح ٍ ، ولا هم بالذين انتكسوا وازدادوا تنويراً ونهضة ً ، كما يزعمونَ ، بل راوحوا في أماكنِهم جهلاً ، وتزيّدوا بالكذبِ والإفكِ ، وأخذوا يُقرّرونَ ويُشرّعونَ جواز َ الانتكاسةِ ، بل ويشرّعونَ لها ، ويحثّونَ النّاسَ عليها ! .
لقد كانَ دهاقنة ُ الكفر ِ قديماً خيراً من هؤلاءِ ، حينَ علموا أنَّ دينَ الأنبياءِ والرّسل ِ قائمٌ على عبادةِ والتبتّل ِ والصدق ِ والعفافِ والصلةِ ، حتّى جاءَ هؤلاءِ المنتكسونَ ، فأخذوا يوهنونَ جانبَ الدّيانةِ ، ويُسهّلونَ طريقَ المعاصي ، ويُشرّعونَ للسفور ِ والتحرّر ِ والتمرّدِ ، ليأتوا على أصول ِ الأخلاق ِ والديّانةِ بالنقض ِ ، واللهُ غالبٌ على أمرهِ ولكنَّ أكثرَ النّاش ِ لا يعلمونَ .
إنَّ هذا المُنتكسَ البائسَ إذا أرادَ تمريرَ شيءٍ من أبوبِ الرخص ِ ، أو فتحَ بابٍ إلى الحرام ِ ، تحوّلَ إلى شخص ٍ ساذج ٍ بسيطٍ مُغفّل ٍ ، وأخذَ نقلُ أخباراً منتقاة ً من بطون ِ الكتبِ ، ويُديرُ ظهرهُ عن الصحيح ِ الثابتِ المشهور ِ ، كلُّ ذلكَ ليروّجَ فكرة ً مدخولة ً ، ويغضُّ طرفهُ عمداً عن عشراتِ الأدلةِ المخالفةِ لقولهِ ، وبل وإجماعَ الأمّةِ على ذلكَ ، ثمَّ يدّعي أنّهُ باحثٌ مُحايدٌ ، ومفكّرٌ نزيهٌ ، وهذا ليسَ حالهُ دونَ بقيّةِ الرّفاق ِ ، بل هذا حالهم جميعاً ، أنّهم باحثونَ في ركام ِ الرّخص ِ ، ومتتبّعونَ لشواذّ الأخبار ِ والأقوال ِ ، دونَ الصحيح ِ الثابتِ ، وهذا الفعلُ كانوا يعدّونَ فاعلهُ – ولو كانَ علماً – من الزنادقةِ ، وذلك لأنَّ مآلَ فعلهُ هو الزندقة ُ الصريحة ُ ، وقد صدقَ سلفنا في هذا وبرّوا ونصحوا ، فهذه أمثلة ُ من تتبّعَ الرّخصَ ، وبحثَ عن الغرائبِ ، كيفَ أصبحَ حالهُ ! .
كان هذا كل ما لدي عن أبي خرشة الدجال، ودمتم بخير
أخوكم المُحبُّ : فتى الأدغال.