ألبرتو مانغويل عن المكتبة كسلطة وميثولوجيا ووطن ونسيان
إعداد : ولي راشد
ألبرتو مانغويل المقيم بين رتل كتبه الآيلة إلى الإزدياد بإطراد، وألبرتو مانغويل الشغوف والمتمتّع بتبديد نفسه وسط الأكداس الكثيفة، وألبرتو مانغويل جامع العناوين المختلفة منذ نصف قرن. يطلّ الكاتب والمترجم الأرجنتيني – الكندي مانغويل في سماته الجامعة تلك في مؤلف يستعيده غارقا في حبّ المكتبات على مرّ العصور، كأحد صنوف الحب المُكتسبة.
في مقدمة “المكتبة في الليل” الصادر لدى “دار الساقي” منقولا إلى العربية عن الإنكليزية، يقرّ مانغويل بأنه وفي شبابه وبينما حلم أصدقاؤه بالهندسة والحقوق وسواهما حلم هو بأن يصبح موظّفا في مكتبة. وفي حين منعه التراخي والشغف بالسفر من تحقيق ذلك على ما يضيف، ها هو وفي عامه السادس بعد الخمسين – “السن التي يقال عندها بزهوّ ان الحياة الحقيقة ستبدأ”، وفق دوستويفسكي في “الأبله”- يعود أدراجه إلى مثاله الأعلى القديم.
وإذا كان مانغويل جمع في سن السابعة أو الثامنة وفي غرفته “مكتبة اسكندرية” صغيرة حوت ما يقرب مائة عنوان، فهو واصل في سنين رشده تجواله في فلك الكتب، قادماً الى مطارح التجارب الحسيّة حيث يتبدى الملموس في علاقة الكاتب- الكتاب، محوريّاً. يتحدث مانغويل عن قراءات تتغلغل في كل عضلة منه لحدّ انه يحمل الى نومه، حين يقرر إطفاء ضوء المكتبة، أصوات وخلجات الكِتاب الذي يكون أطبقه للتو.
يجعل مانغويل من المكتبة مملكته الخاصة البعيدة عن تلك العمومية والإلكترونية، وفي مسار تلقف بيئة مرصوفة بالعناوين، يعود مانغويل الى “مكتبة الإسكندرية” التي بناها ملوك البطالمة في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد لكي يتاح إتّباع تعاليم أرسطو على نحو أفضل. يتمهّل عند مكتبة كانت مجمعاً للكلّ وكشفت “عن خيال جديد فاق بالطموح والإمكانات كل المكتبات القائمة آنذاك”. مكتبة على حدة نقش فوق رفوفها “انه مكان شفاء الروح”. فأي تعبير أجمل أو أكثر صدقا؟
لا يخفي مانغويل تشكيكه بمنجزات زمننا الفاقد في رأيه للأحلام الملحمية – الأحلام التي استعضنا عنها بالأحلام السلبية بوهمُ الخلود الذي ابتدعته التكنولوجيا. يصف المكتبة الإلكترونية بالوهميّة ولا يبدي رأفة حيالها مُشككاً في عالميتها. يشير إلى الشبكة العنكوبتية المدّعية انها صوت للجميع في حين انها بحر مجهول (يستعير تعبير Mare Incognitum اللاتيني من رسّامي الخرائط في إِشارتهم إلى المناطق غير المعروفة) يَخدعُ المسافرين بإغواء الإكتشاف.
يمرّ مانغويل بالحُجة الزائفة التي تدعو إلى الاستنساخ الالكتروني بسبب الانقراض الحتمي للورق، ويكتب في هذا الصدد “كل من استخدم كمبيوترا يعلم كم هو سهل أن يفقد المرء نصا على الشاشة، أن يصادف قرصا تقليديا أو آخر ليزريّا تالفا. أن يحدث دمار في القرص الصلب هو الجانب الآخر لكل الإغواء”. يعللّ كلامه باقتباس كلام مدير برنامج محفوظات السجلات الاكترونية في ادارة السجلات والأرشيف القومي للولايات المتحدة الأميركية، حول ان ديمومة المواد الالكترونية “مشكلة عالمية لأكبر الحكومات وأكبر الوكالات وصولا إلى الأفراد”. في عرف مانغويل ان مجتمعنا اللاورقيّ كما يعرفُه بيل غيتس، هو مجتمع بلا تاريخ، من حيث أن كل ما على الشبكة العنكوبتية “هو معاصر بصورة لحظيّة”.
في النصّ نحن في محاذاة المكتبة في تصوراتها المختلفة، كميثولوجيا أو مكان أو ظلّ أو شكل، أو المكتبة كمصادفة انطلاقا من كلام امبرتو إيكو الراغب في مكتبة تغدو كمثل أكشاك الكتب المستعملة، مكانا للعثور على اللقى. هناك المكتبة كجزيرة أيضا في الإستناد إلى كلام فرنسوا مورياك بأن “كل طاعن في السنّ هو كروزو”.
في فصل المكتبة كترتيب يورد مانغويل ان كل تنظيم هو اعتباطي في المحصلة وان المكتبات العامة تتّبع أساليب تتراءى غريبة أحيانا، كأن يجري ادراج اسم الكاتب ستاندال تحت حرف “ب” الذي يدل على إسمه الحقيقي بايل، أو أن يجري تصنيف النساء تحت “شؤون علميّة متنوعة”، بعد السحر وقبل المصارعة. ونجد في السياق عينه في مكتبة الكونغرس فئات طريفة من قبيل “أبحاث الموز” و”الأبواط والأحذية” و”المجارير: أعمال متنوعة”.
يستبقي مانغويل أيضا “المكتبة كسلطة” ليجزم انه يستحيل إنكار كل ما يرد في الكتب التي تضفي هيبة موحية بالإلهام المكلّل بالخشية. نمرّ على هذا النحو بالرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان الذي طلب عضوية الأكاديمية الفرنسية ونالها من طريق رواية رومنسية يصفها مانغويل بالهزيلة وجاءت بعنوان “الممر”.
في زمن التحوّلات العربية المُفزعة حيث التحامل على الإرث بات عملة سائدة وسائغة أيضا، نرصد مانغويل يكتب وكأنه يصف حالنا عن أدب الأميركيتين الأصلييين الذي بالكاد وصلنا منه شيء، وعن المكسيك وأميركا الوسطى حيث تم تدمير المكتبات العظيمة ودور التوثيق لشعوب ما قبل كولومبوس بشكل منهجي “بغية تجريد تلك الشعوب من الهوية”.
في “المكتبة في الليل”، صورٌ كثيرة توثّق بصرياً مآل النص على نسق كليشيه لإحدى “المكتبات المحمولة على الحمير” في المناطق القروية الكولومبية، أو بطاقة بريدية تظهر مكتبة كوزيت في ممفيس، او صورة لنهب المكتبة الوطنية والوثائق الحكومية في بغداد فضلا عن أخرى لبورخيس تظهره في مكتبة بوينوس آيرس الوطنية حيث عمل مديرا خلال ثمانية عشر عاما وحيث احتفل بجميع أعياد ميلاده تقريبا.
والحال ان المراهق مانغويل شكل عينيّ الكاتب الأرجنتيني الضرير، خلال أربع سنوات. إنضم مانغويل على ما يروي في كتابه المحتفي بجودة الأدب الحي “في رفقة بورخيس”، الى مجموعة نالت شرف القراءة والتدوين لأحد اكثر قارئي العالم نهماً. تقاسم مانغويل مع آخرين قطعاً من ذاكرة فرغت عيناها من الضوء لتلتمع أدباً.
في منطق ألبرتو مانغول المكتبة هي عالم الفرص وهي الوطن والبقاء والنسيان حتى. يذكُر ان مكتبته حوت على نصف يتذكّره من الكتب ونصف آخر منها نسيه. وحين يسأله الزوار إذا كان طالع كل المحتويات، يأتي جوابه انه بالتأكيد فتح كلّ كِتاب منها. ليزيد انه ليس من الضروري قراءة المكتبة بكلّيتها لكي تكون مفيدة ذلك ان “القارىء ينتفع من التوازن العادل بين المعرفة والجهل وبين التذكّر والنسيان”.
لا يمكن شخصا يعيش في صحبة الكتب أن لا يجد ضالته في نص مانغويل. لا يمكن قارئاّ حَقاً أن يتجنّب التورط في المغامرة وأن يحصّن نفسه ضد الشعور بمتعة الرحلة.
roula.rached@annahar.com.lb
Twitter: @Roula_Rached77