قصة قصيرة

استعمالٌ يوميْ – تأليف: أَليس ووكر

ترجمة: أحمد الخصيبي.

سأترقبها في الفناء الذي نظفتهُ رفقةَ (ماغي) وجعلناه ناصعاً البارحة بعد الظهر، ففناء كهذا أكثر راحة مما يحسبه الآخرون؛ إنه بمثابة غرفة معيشة واسعة، فعندما نكنس الأرضية من الطين الجاف والرمل الذي تساوت خطوطه مع حواف شقوق الأرض غير المنتظمة، سيتمكن الجميع من المجيء والجلوس لتأمل شجرة الدردار وانتظار النسائم الباردة التي لا تزور غُرف المنزل أبداً.

سيلاحق القلق (ماغي) حتى بعد مغادرة شقيقتها؛ ستقف يائسة ووحيدةً في جنبات البيت، تشعر بالخزي من ندب الحروق على ذراعيها ورجليها، وتحدّق بأختها بنظرات تحكي حسداً وإعجابا، فهي تعتقد بأن الحياة لم تستعص أبدا على أختها، لدرجة أن العالم لم يفقه يوما كيف يتفوه بكلمة “لا” أمامها.

لا شك أنكم تابعتم برامج التلفزيون تلك؛ حين تُقدم الطفلة المميزة أمام الجمهور كمفاجأة من أبويها وتخرج ببطء من خلف الكواليس. (يالها من مفاجأة سارة، لكن ما عساهم أن يفعلوا لو ظهر الأب وطفلته في البرنامج فقط لأجل تبادل الشتائم والإهانات لبعضهما البعض؟) تبتسم الأم للطفلة ويعانقان بعضهما بعضا على شاشة التلفزيون، وأحيانا ما يذرف الأبوان الدموع وتجري طفلتهما لتعانقهما وتتكئ على الطاولة لتخبرهما أنها لم تكن لتصل لما وصلت إليه لولا وقفتهما. لقد تابعتُ هذه البرامج.

يتراءى لي أحيانا في الحلم أنني رفقة (دي) نُستضاف سويا في برنامج تلفزيوني شبيه بهذا حيث يقودنا أحدهم خارج سيارة ليموزين داكنة اللون ذات مقاعد مريحة إلى غرفة مضيئة مكتظة بالناس، وهناك ألتقي برجل أبيض وسيمٍ بشوش الوجه يشبه جوني كارسون[1] حيث يصافح يدي ويحدثني كم أنا محظوظة بفتاة مثلها، بعدها نظهر على الهواء فتعانقني (دي) بعيون فياضة وتضع على لباسي زهرة أوركيد كبيرة رغم أنها قد أخبرتني مسبقا بأن الأوركيد زهرة دبقة.

أما في الحياة الواقعية فأنا امرأة ضخمة ممتلئة أيديها خشنة كأيدي الرجال. أرتدي في الشتاء ثوب النوم حين أذهب إلى السرير، أما في النهار فأرتدي بدلة العمال. أنا كالرجال؛ أستطيع قتل خنزيرٍ وسلخه بلا أدنى رأفة، ولدي دهون في جسمي تبقيني دافئة في عز البرد. بمقدوري العمل خارجا طيلة اليوم أكسّر الثلج لأحصل على ماء الغسيل، وأستطيع أكل كبد خنزير مطهيٍّ على نار مكشوفة بدقائق بعد خروجه والبخار يتصاعد منها. وأوقعت يوما بعجل ثور ضربته ضربة مباشرة بين عينيه بمطرقة حديدية، وعلقت اللحم حتى يبرد قبل حلول الليل. غير أن كل هذا وبكل تأكيد لا يَظهر على الشاشات، فأنا في الطريق التي ترغب ابنتي أن أكون: أنحفَ بخمسين كيلوجراماً، وذات بشرة تشبه فطيرة شعير محلاة نيئة، وشَعرٍ يتلألأ تحت الأشعة الحارقة، سيتحتم على جوني كارسون بذل الكثير حتى يجاري سرعة بديهتي وظرافتي.

عدا أن ذلك لا يمتُّ للواقع بصلة، أعلم ذلك قبل استيقاظي حتى، متى كان لأحد من عائلة (جونسون) لسان طليق! بل من له أن يتخيلني أواجه رجلا أبيض غريبا؟ يبدو أنني قد تحدثت لأمثاله دوما وقدماي تتأهبان لتنطلقا مع الريح وبرأسي ملتفتا إلى أي شيء بعيد عنهم. أما عن (دي) فقد اعتادت دوما النظر إلى الناس في عيونهم، ولم تكن تعترف بشيء يدعى التردد أو الخوف.

“كيف أبدو يا ماما؟” قالت (ماغي) وهي بالكاد تُرى من خلف الباب، وانعكس لي ما يكفي من جسدها النحيل المنطوي خلف تنورة وردية وسترة حمراء.

قلت لها: “أخرجي إلى الفناء”.

هل سبق لكم وأن شاهدتم حيوانا واهنا وضعيفا مثل كلبٍ دهسه شخص طائش وثري ثراءً كافيا لامتلاك سيارة لكنه ظلّ يمشي إلى جانب أحد آخر جاهل كفاية حتى يتلطف به؟ تلك هي (ماغي) حين تمشي، لم تتغير يوما، رأسٌ منكس وعينان تنظران نحو الأرض وأقدام تجر بعضها ذُلّا، هي على ذلك منذ أن شبت النيران التي التهمت بيتنا القديم تماماً.

وعن (دي)، فهي أذكى من (ماغي)، وبشعر جميل وجسد ممتلئ، لقد أصبحَت امرأةً الآن رغم أنني أنسى ذلك أحيانا.  كم مضى على احتراق ذلك البيت الآخر؟ عشر أو اثنتا عشرة سنة؟ أحيانا أستطيع سماع أصوات النيران والاحساس بذراعي (ماغي) ملتفة حولي وشعرها يدخن ولباسها يتساقط على شكل قطع ورقية صغيرة. بدت عيناها مفتوحتان بشدة ومتوهجة بالنيران من حولها، أما (دي) فأراها واقفة تحت شجرة اللثة الحلوة التي اعتادت استخراج اللثة منها وبنظرة على وجهها ملؤها التمعّن مُشاهدةً آخر لوحة زورق رماديةٍ في البيت تسقط باتجاه المدخنة الحمراء المشتعلة. وددتُّ لو أسألها: “لِمَ لمْ ترقصي حول الرماد؟” فقد كَرِهَت (دي) ذاك البيت كرها شديداً.

لطالما حسبت أنها كرهت ماغي أيضا، لكن ذلك كان قبل أن أجمع بدعم من الكنيسة أموالا لنرسلها إلى مدرسة في أوغستا. اعتادت أن تقرأ علينا دونما شفقةٍ: تفرض علينا كلماتٍ وأكاذيب وعادات شعوب أخرى، بل قصص حياة كاملة علينا نحن الأميّتين المحبوستين تحت صوتها، فقد غسَلتنا في نهر الخيال وأحرقتنا بكومة من المعرفة كنا في غنى عنها، وضغطت علينا بأسلوب قراءة العبيد التي اتبعتها حتى تسكتنا مثل غبيتين في اللحظة التي نوشك فيها أن نفهم.

ولطالما رغبت (دي) بالأشياء الجميلة، كارتداء فستان أصفر من قماش الأورجانزا حين تتخرج من الثانوية، وزوجا كعبٍ عاليين ليتطابقا مع زي أخضر كانت قد صنعتُه من زي قديم أعطاني إياه أحدهم. كانت تُطيل التحديق بأية كارثة تصيبها، فلم يكن يطرف جفنها لدقائق متواصلة، وغالباً ما حاربتُ رغبتي في هزها. وأصبح لها في سن السادسة عشرة أسلوبها المتفرد، وكانت تُدرك ذلك.

أما أنا فلم أتلقّ تعليما قط، فبعد الصف الثاني أُغلقت المدرسة، لا تسألوني لماذا، ففي 1927 لم يكن باستطاعة ذوي البشرة الملونة طرح ما قد يطرحونه من تساؤلاتٍ اليوم. تقرأ لي (ماغي) في بعض الأحيان وتتلعثم بعفوية، إنها لا ترى جيدا، وتعلم بأنها ليست ذكية، فالفطنة تجاوزتها مثلما قد تجاوزها الجمال والمال، وستتزوج من جون توماس (ذو الأسنان الطحلبية وتعابير الوجه الجادة) وسأتمكن من البقاء هنا وربما أُنشد ترانيم الكنيسة لنفسي، رغم أنني ما كنت مغنية جيدة يوما ولم أتحل بصوت جميل. لطالما كنت متفوقة في أعمال الرجال، اعتدتُ أن أحب حلب الأبقار حتى تلقيت طعنة جانبية وأنا بسن التاسعة والأربعين، فالبقر لطيف ومهذب ولن يزعجك ما لم تحاول حلبه بالطريقة الخاطئة.

لقد تعمدت إدارة ظهري للمنزل، فهو بثلاث غرف مثل ذاك الذي احترق عدا أن السقف معدني، فما عادت الأسقف الخشبية تُصنع، ولا توجد نوافذ حقيقية بل مجرد فتحات على جنبات البيت، مثل نوافذ السفن، عدا أنها ليست دائرية ولا مربعة، وبجلد غير مدبوغ يثبت أبواب تلك الفتحات. كما أن البيت محاط بمرعى، مثل ذاك البيت، لا عجب أن (دي) ترغب بتحطيمه حين تشاهده. كتبت لي يوما بأنها ستأتي لزيارتنا أينما عشنا لكنها لن تأتي رفقة أصدقائها. تساءلنا أنا و(ماغي) حيال هذا، وسألتني الأخيرة: “ماما، متى كان لـ (دي) أصدقاء؟”

نعم، حظِيَت بالقليل، فتيانٌ ماكرون يخرجون للتجول في يوم الغسيل بعد المدرسة، وفتياتٌ عصبيات لم يُر الضحك والتبسم على وجوههن يوما. صرن منبهراتٍ بـ(دي) ورحنَ يؤلّهن عباراتها المصوغة بإحكام وشكلها اللطيف وحس الفكاهة الذي يغلي ويثور كفقاعات بداخلها، كما أنها تقرأ لهم.

لم تلقِ لنا بالاً كثيرا حين كانت تتودد ل “جيمي تي”، فقد صبّت عليه كل قدرتها على اللومِ والانتقاد، فقد هرب إلى المدينة ليتزوج فتاة رخيصة من إحدى الأُسر الغنية والجاهلة، أما هي بالكاد استطاعت لمّ شتاتها بعده.

وعندما تصلُ سأقابلــ.. أوه لكن ها هم هنا!

تحاول “ماغي” تأدية عملها بطريقتها المزعجة، لكني أوقفها بيدي وأقول: “عودي هنا”، فتقف مكانها تحرك إصبع قدمها في التراب وكأنها تحفر بئراً.

تصعب رؤيتهم تحت أشعة الشمس المحرقة، لكن فوق ذلك أعرف أنها “دي” من أول لمحة لساقها التي تخرج من السيارة، فلطالما كانت ساقها رائعة وكأن الرب نفسه قد صاغها كما شاء. وفي الجانب الآخر من السيارة خرج رجل قصير وبدين والشعر يطغى على أنحاء رأسه ويتدلى بطول قدم واحدة من على ذقنه وكأنه ذيل بغل غريب الشكل، فأسمع صوت “ماغي” تطلق تنهيدة مُحبَطةً (هِه)، كأنما قد رأت نهاية أفعى ملتوية أمام قدميها مباشرة على الطريق.

والآن “دي”، بثوب يصل الأرض في هذا الجو الحار، ثوبٌ مزعج يؤذي بصري، بكثير من البرتقالي والأصفر كفيلٌ بعكس ضوء الشمس. أشعر بكل وجهي يزداد حرارةً بسبب الموجات الساخنة التي تصدرها، وكذلك من قرطيْ أذنيها الذهبيين المتدليين حتى كتفيها، ومن أساورها المعلقة التي تصدر صوتا حين تنفض طيّات الثوب من جيبها. الثوب فضفاضٌ وخفيف، ويعجبني حين تمشي مقتربة. وأسمع “ماغي” تعبر عن إحباطها مجددا بذلك الصوت. وشعر أختها، المسترسل كصوف الخرفان، أسود سواد الليل على أطرافه ضفيرتان طويلتان معقودتان ببعضهما كأنها تخبئ سحليتين خلف أذنيها.

نطقت “دي” وهي آتيةٌ من تلك الطريق الزلقة يقودها ثوبها قائلةً: “وا-سو-زو-تيان-أو[2]!”. أما الفتى البدين بشعره الممتد حتى السرة جاء متبعا بابتسامة وقال: “السلام عليكم يا أمي وأختي!”، راح يحضن “ماغي” لكنها ترنحت إلى الخلف نحو كرسيي. أحسست بها ترتجف هناك، وحين رفعت رأسي رأيت عرقها يتصبب من ذقنها.

قالت لها “دي”: “لا تقِفي”. سيتطلب الأمر دفعة ما بما أنني شجاعة. يمكنك رؤيتي لثانية أو اثنتين قبل أن أفعلها، استدارت مُظهرة كعب نعلها الأبيض وعادت إلى السيارة.  وفي الخارج تلقي نظرة خاطفة ومعها كاميرة “بولارويد[3]” فتنحني لتلتقط صورة تلو الأخرى لي وأنا أمام المنزل و”ماغي” متقوقعةٌ خلفي. كما أنها لا تلتقط أية صورة دون أن تتيقن من أن البيت يتضمنها، وحين تمرّ بقرة تمضغ الطعام على زاوية الفناء، تلتقطها معي و”ماغي” والبيت. وبعدها تضع الكاميرة في مقعد السيارة الخلفي، وتأتي لتقبل جبيني.

في تلك الأثناء أخذ “السلام عليكم[4]” يحرك يد “ماغي”، كانت يدها مترهلة وربما باردة كسمكةٍ رغم العرق المتصبّب منها، ظلت تحاول نزع يدها منه، لكن يبدو أن “السلام عليكم” كان يحاول مصافحتها، لكنه أراد ذلك بلطف، أو أنه ربما لا يجيد فعل ذلك. غير أنه سرعان ما يأس من “ماغي” على أية حال.

قُلت: “حسنا دي”

قالت هي:” لا ماما، لست دي، بل “وانغيرو ليماونيكا كيمانغو!”

قُلت مستغربة:” ماذا حدث لـ “دي”؟”

قالت (وانغيرو): “إنها ميتة، لم أستطع تحمل ذلك أكثر، أن أحمل ذات اسم من اضطهدني”

قُلت:” لكنك تعلمين أيضا أنك سُمّيتي باسم خالتك (ديسي)”.  (ديسي) تُعد شقيقتي وهي من أسمت (دي) بهذا الاسم ولاحقا ما أطلقنا عليها اسم (دي الكبيرة) بعد ولادة (دي).

سألت (وانغيرو): لكنها سميت تيّمنا بمن؟”

أجبتها:” باسم جدتك كما أظن”

سألت مجددا:” وهي الأخرى سُميت باسم من؟”

أخبرتها وقد رأيت عليها آثار التعب:” باسم أمها، هذا أكثر ما يمكنني تتبعه في العائلة”. لكني في الواقع كنت أستطيع التتبع وذكر من يتلوها إلى ما بعد الحرب الأهلية.

قال “السلام عليكم”: حسنا، ها أنتِ هنا”.

أطلقت “ماغي” تنهيدتها المحبَطة مجددا.

بينما واصلتُ الحديث:” لم أكن هنالك قبل ظهور اسم (ديسي) في العائلةـ فلمَ عليّ محاولة تتبعه إلى هذا الحد؟”

بقي جالسا مبتسما ينظر إليّ باحتقار وكأنه يتفحص سيارة من الطراز الرفيع، وظل بين لحظة وأخرى هو و “وانغيرو” يرسلون بنظراتهم شزراً إليّ.

سألت:” كيف يُتهجؤ هذا الاسم؟”

قالت (وانغيرو): “ليس عليك مناداتي به إن لم تريدي”

رددتُ عليها:” لم لا؟ إن كان هذا ما تريدين أن نناديك به فسوف نفعل”

فردّت علي:” أعلم أنه يبدو محرجا في البداية”

فقلت لها: “سأعتاد عليه، انطقيه مجددا بوضوح”

ولاحقا سرعان ما تمكنتُ من الاسم، أما اسم (السلام عليكم) فقد كان أطول بمرتين وأصعب بثلاث مرات، وبعدما تعثرت فيه مرتين أو ثلاث أخبرني أن أدعوه بـ”حكيم الحلّاق” فحسب. وددت أن اسأله إن كان حلاقاً فعلا لكني لم أظنه كذلك ولذا لم اسأله.

جلست أحدثه:” لابد أنك تنتمي إلى أحدى تلك الجماعات المربية لماشية البقر على الطريق. فقد قالوا “السلام عليكم” حينما التقوا بك أيضا غير أنهم لم يصافحوك. إنهم دوما مشغولون بإطعام ماشيتهم ووضع الملح لها وإصلاح السياج ورمي القش. ولما سَمّم البِيض بعض الماشية مكث الرجال طوال الليل حاملين بنادقهم، مشيتُ ميلاً ونصف الميل حتى أرى ذلك فقط.

فقال (حكيم الحلّاق): “أتقبل بعضًا من معتقداتهم، لكني لا أميل إلى الفلاحة وتربية المواشي”. (لم يخبراني ولم أسأل إن كانت وانغيرو (دي) قد ذهبت فعلا وتزوجته).

جلسنا نتناول الطعام فأخبرنا على الحال بأنه لم يأكل الملفوف وأن لحم الخنزير نجس، أما (وانغيرو) فقد تناولت طبق التشيتلينز مع الخبز وقضت على الأخضر واليابس، وتحدثت طويلا أمام طبق البطاطا الحلوة. فكل شيء أبهرها حتى حقيقة أننا ما زلنا نستعمل المقاعد الخشبية التي صنعها والدها للطاولة حين لم نتحمل كلفة شراء الكراسي.

بكت وقالت لي قبل أن تدير وجهها لـحكيم حلاق:” أوه ماما!، لم أكن أدرك مدى جمال هذه المقاعد، أستطيع الإحساس بعلامات الجلوس عليها” وظلت تتلمس المقعد حين قالت ذلك. ثم رمقت بعينها قبل أن تحط يدها على طبق الزبدة الخاص (بالجدة دي) وصاحت:” ها هو!، كنت أعلم بأن هنالك شيئا أود لو تعطيني إياه”. قفزت (وانغيرو) من على طاولة الطعام واتجهت نحو الزاوية لتنظر حيث ممخضة الزبدة، فقد أصبح الحليب متماسكا الآن.

قالت:” ما أحتاجه هو غطاء الممخضة، ألم يصنعها العم “بَدي” من الشجرة التي كانت لكم؟”

قُلت لها: “بلى”

قالت فرِحةً:” و..آه! أريد عصا الممخضة أيضا”

قال الحلاق:” وهل صنع العم “بَدي” العصا كذلك؟”

رفعت دي (وانغيرو) رأسها ونظرت إلي.

نطقت (ماغي) بصوت ضعيفٍ لا يكاد يُسمع:” إن من نحت العصا هو أول زوج للعمة دي، كان اسمه هنري، لكن لاحقا أُطلِق عليه اسم “ستاش”.

قالت “وانغيرو” ساخرة من أختها:” دماغ ماغي كدماغ الفيل” ثم أتبعت بقولها: “يمكنني استعمال غطاء الممخضة كسطح لطاولة الجلوس، كما سأفكر بشيء جميل للعصا”.

عندما أنهت لف العصا، علِق المقبض فأخذتُه بين يدي لبرهة، لم تكن هنالك حاجة حتى لرؤية مكان تحريك العصا لأسفل وأعلى لجعل الزبدة تُشكّل شيئا أشبه بالحوض في الخشب، في الواقع كانت هنالك علامات حفر صغيرة؛ بالأحرى كان يمكن رؤية علامات أصابع إبهامٍ غاصت فيها، لقد كان الخشب ذا لون أصفر فاتح جميل، أُخذ من شجرة زرعت في الفناء حيث عاشت (دي الكبيرة) رفقة (ستاش) سابقا.

بعد العشاء، راحت دي(وانغيرو) تفتش وتعبث بالصندوق المجاور لسريري، وعادت (ماغي) لتنظيف الأواني في المطبخ، خرجت (وانغيرو) بلحافين كانت (الجدة دي) قد جمعتهما، وعلقناهما أنا ودي الكبيرة في إطار الأغطية في الرواق الأمامي وأصلحناهما. إحداهما كان على شكل “لون ستات” والآخر “امش حول الجبل” وفي كليهما كان هنالك رقع من ملابس ارتدتها الجدة دي قبل خمسين عاما، ورقع من قمصان الجد “جاتيل بيزلي” وقطعة زرقاء شاحبة صغيرة جدا كصندوق أعواد ثقاب، مأخوذة من زي جدي الأكبر “إزرا” الذي ارتداه إبان الحرب الأهلية.

قالت (وانغيرو) بكل تودد ولطف:” أيمكنني الحصول على هذين اللحافين القديمين؟”

سمعت صوت شيء يسقط في المطبخ، وبعدها بدقيقة أُغلق باب المطبخ بعنف.

اقترحتُ على (وانغيرو): “لم لا تأخذين واحدا أو أثنين من الأغطية الأخرى، فالقديمة صنعتُها رفقة دي الكبيرة من ملابس جمعتها جدتك قبل وفاتها”

اعترضت (وانغيرو):” كلا، أريد هاتين، فهما مُحاكتان من عند أطرافهما بآلة الحياكة”

أخبرتها:” ذلك سيطيل من عمر الأغطية”

فقالت:” ليس هذا ما أصبو إليه، إن هذه الأغطية جمعت من ملابس اعتادت جدتي ارتداءها، وقد فعلت كل هذا يدويا، تخيـــلي!!”. تشبثت بالأغطية باطمئنان بين ذراعيها وراحت تتلمسها بعناية.

أجبُتها مُحاولةً لمس الأغطية:” إن بعض هذه الرُقع كالبنفسجية مثلا أتت من ملابس عتيقة أعطتها إياها أمها”، تراجعت دي (وانغيرو) إلى الخلف حتى لا أصل إلى اللحافين، فقد أصبحت بالفعل تنتمي إليها.

صاحت مرة أخرى وهي متمسكة بها بشدة في حِجرها:” تخيلي!”

صارحتُها:” في الحقيقةـ، لقد قطعتُ وعدا بأن أعطي هذين اللحافين لـ(ماغي) حين تتزوج جون توماس”

شهقت (وانغيرو) وكأن نحلة لسعتها وقالت:” لن تقدّر ماغي هذه الأغطية وستكون متخلفةً بما يكفي حتى تضعها للاستعمال اليومي”

رددتُ عليها:” وهذا ما أظنه، أتمنى أن تفعل كذلك! يعلم الرب المدة التي أبقيتها دون أن يستعملها أحد”. لم أُرد استحضار كيف أنني قد عرضت على دي (وانغيرو) أحد اللحافين حين ذهبت للكلية وأخبرتني حينها بأنها غير عصرية وعتيقة.

غير أنها الآن تقول مشتعلةً غضبا بأنها “لا تقدر بثمن” وأنها “ستغدو رثة ومهترئة خلال خمس سنين إن استخدمتها ماغي”

قُلت لها:” بإمكانها دوما صنع المزيد، (ماغي) تجيد حياكة الأغطية”

حدّقت دي (وانغيرو) بي بنظرة كره وقالت: “لن تفهمي، فالمغزى كله في هذين اللحافين، هذان فقط!”

تساءلتُ وقُلت:” حسنا، ماذا ستفعلين بها؟”

أجابت:” سأعلقها”. وكأنما ليس من شيء آخر لتفعله بها.

كانت (ماغي) بحلول تلك اللحظة واقفة أمام الباب، كان بإمكاني سماع صوت حركة قدميها. نطَقَت كشخص لم يعتد أن يفوز أو يحظى بأي شيء له:” بإمكانها الحصول عليها ماما، سأتذكر (جدتي دي) دون الحاجة إلى اللحافين”

رمقتُها بنظرة حادة وقد تصبغت شَفَتُها السفلى بسعوط عنب الأرض وجعلَ شكلها كالبلهاء. كانت جدتها دي ودي الكبيرة هما من علمها حياكة الأغطية.

وقفت مكانها مخفية يديها المتشوهتين بالندب خلف طيّات تنورتها. ورمقت أختها بنظرة يشوبها شيءٌ من الخوف غير أنها لم تكن غاضبة منها. ذاك كان نصيب (ماغي) وذاك حيث علِمَت خطة الرب.

حين نظرتُ إليها على تلك الحال، أحسستُ بشيء في رأسي يتغلغل حتى وصل إلى أخمص قدميْ، مثلما أكون في الكنيسة وتلامسني روح الرب فتغمرني البهجة وأصرخ.

فعلت شيئا لم أتجرأ على فعله من قبل: احتضنتُ (ماغي) وأخذتها إلى الغرفة وانتزعت الأغطية من بين يديّ السيدة (وانغيرو) ووضعتها في حضن (ماغي). وتسمرت الأخيرة بفم مفتوح هناك على سريري.

أخبرت (دي) أن تأخذ واحدا أو أثنين من الأغطية الأخرى، لكنها استدارت دونما أية كلمة وهرعت إلى حكيم الحلاق، وقالت أثناء خروجي مع ماغي إلى السيارة:” أنتِ لا تفهمين”

أردتُ أن أعرف:” ما الذي لا أفهمه؟”

قالت لي:” تُراثُك” والتفَتَتْ إلى (ماغي) وقبّلتها وقالت:” عليك أن تصنعي من ذاتك شيئا، فهذا يوم جديد فعلا لنا، لكنك لن تتعلمي بهذه الطريقة التي ما زالت تعيش عليها ماما”.

ووضعت (وانغيرو) نظارات شمسية أخفت كل ما في وجهها عدا مقدمة أنفها وذقنها.

أما (ماغي) فقد ابتسمت، ربما للنظارات، لكنها كانت ابتسامة صادقة بلا رهبة، وبعدما تلاشى غبار السيارة طلبتُ من ماغي احضار القليل من السعوط لأستنشقه، وثم بقينا نحن الاثنتين نقضي وقتا ممتعا إلى أن حان وقت العودة إلى المنزل والذهاب للفراش.

[1] مقدم برامج تلفزيونية أمريكي شهير خلال الفترة بين الستينات وحتى أوائل تسعينات القرن الماضي

[2] أسلوب إلقاء تحية بإحدى اللغات الافريقية

[3] نوع من أنواع الكاميرات

[4] أسلوب تهكم على الفتى الذي قال السلام عليكم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى