«الفنون الجميلة» لغوته: حسرة الشاعر لأنه لم يكن رساماً
كتبها : إبراهيم العريس
كتب في كل شيء يتعلق بفنون زمانه وآدابها وآثارها. كتب الفلسفة والشعر والرواية والنقد، وخاضت
كتاباته كذلك في بعض العلوم. وكتب أيضاً في النقد وفي اللغة، وغاص حتى في روحانيات الشرق وغيبياته وفي التاريخ وأسراره. ووصل الى حد كتابة الرواية العاطفية.
وهذا ما جعله فريد عصره، وقد نقول أيضاً فريد العصور كلها، وواحداً من أكبر الأدباء/المفكرين في تاريخ الفكر الأوروبي خلال القرون الثلاثة الأخيرة على الأقل- وهو أمر تؤكده على أية الحال استطلاعات الرأي التي تُجرى في أوروبا بين الحين والآخر فيجمع فيها المستطلَعون على تفوقه الدائم-. غير أنه، هو الذي أبدع الكتابة في نظرية الألوان وفي البصريات بخاصة، لم يجد طوال حياته وسيلة تمكّنه من أن يرسم. فهو كان يحب، أيضاً، أن يكون رساماً، وموسيقياً ونحاتاً إذا أمكن. ولكن يبدو أن باعه في هذه الفنون التطبيقية كان قصيراً. ويروى أن أسفاً كبيراً تملكه طوال حياته من جراء هذا الواقع السلبي. غير انه، ببصره الثاقب، وكمية المعارف الهائلة التي احتوى عليها عقله ووجدانه، عرف على مراحل مختلفة من حياته، كيف يبدل هوسه بأن يكون رساماً- وموسيقياً ونحاتاً- بانصراف إلى الكتابة عن الفن. فكانت كتاباته في هذا المجال أشبه بلوحات أخاذة، وقطع موسيقية ومنحوتات.
انه وولفغانغ غوته، أديب المانيا الأكبر خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر، والثلث الأول من التاسع عشر. الأديب الذي يعرفه كثر من العرب، خصوصاً، بكتابه «الديوان الشرقي للشاعر الغربي» الذي عرف كيف يمجد فيه الحضارة الإسلامية في شكل لم يفعله أي أديب غربي آخر، على كثرة الأدباء والفنانين الغربيين الذين عرفوا كيف يجدون في شرقنا مصدر الهام لهم بين الحين والآخر سواء أكانوا روائيين أو شعراء أو رسامين أو موسيقيين. غير ان ما نحن في صدده هنا هو كتاب لغوته يحمل عنواناً في غاية الاختصار والبساطة: «الفنون الجميلة». والطريف ان هذا العنوان الذي قد يوحي أول الأمر بأنه يتعلق بدراسة أو بحث اكاديمي، إنما يخفي في حقيقة الأمر وراءه مجموعة شعرية لا أكثر… بمعنى ان العنوان هو لمجموعة من القصائد كتبها غوته في مراحل متقطعة من حياته، وتدور كلها حول فنون جميلة. والأصل في هذا العمل قصائد وجد بعضها في مجموعة لغوته جعل عنوانها «أشعار» حين طبعها للمرة الأولى في العام 1815- أي في مرحلة مبكرة من حياته ومساره الكتابي الذي بدأ لديه هو الآخر مبكراً على أية حال-، ثم أضيفت اليها أقسام أخرى في طبعات لاحقة.
ومن الواضح ان دراسة متمعنة لهذه القصائد كفيلة بأن تضعنا، حقاً، ازاء موقف غوته تجاه الفنون الجميلة… علماً أن هذا الموقف لم يكن أبداً موقفاً واحداً جامداً، بل كان موقفاً متغيراً تبعاً للحقب والظروف، ذلك ان القصائد المعنية هنا كتبت، كما أسلفنا، في فترات متتابعة امتدت خلال الجزء الأكبر من حياة غوته. وإذا كانت القصائد نشرت، في المجموعة، تبعاً لسنة نشرها أو كتابتها للمرة الأولى، فإن الأولى بينها هي قصيدة «العابر» التي تحفل بأجواء رومانسية عاطفية اثارت اعجاب القاء، حتى وان كان الباحثون في حياة غوته يقولون ان طابعها الحماسي العاطفي ما كان ليؤهلها لتكون ضمن المجموعة. غير أن أهميتها، مع هذا، تنبع من كونها تظهر حماسة الشاعر المبكرة للفن الكلاسيكي وللطبيعة، إذ تجمع في طيّات أبياتها، بين نظرية فنكلمان الشهيرة في الفن، وبين انجيلية جان – جاك روسو ونظرته الى الطبيعة. وبعد ذلك تأتي قصيدة «أغنية الفنان الصباحية» التي يقول الباحثون عنها انها تعبّر خير تعبير عن المرحلة التي كان فيها غوته متأثراً بهوميروس وبالملاحم الاغريقية القديمة. وبعد هذه القصيدة ينشر غوته في العام 1775 قصيدة «أغنية الفنان» التي تعارض تماماً ولع غوته بالاغريق، لتطلب من الطبيعة الوحي بـ «توسيع مدى الوجود الضيق حتى يتمكن من معانقة الأبدية». وفي العام 1812 يرسل غوته الى زميليه الفيلسوفين رينهاردت وهامبولدت نص قصيدة جديدة له عنوانها «كم كبيرة هي ديانا الأيفيزية». وهي قصيدة ذات منحى فانتازي حتى وإن لم تكن في جوهرها فانتازية، إذ ان غاية الشاعر منها كانت الرد على نص كان المفكر جاكوبي نشره بعنوان «عن الأمور الإلهية وعن سبر أغوارها». وقال غوته هذا صراحة، حتى في رسالة أخرى بعث بها الى جاكوبي ويقول فيها انه يحزنه ان يرى واحداً من تلامذته ينحو الى ابدال الإلهة ديانا بغيرها من الآلهة، بعد أن كان هو – أي غوته – كرّس حياته كلها من أجل مجد ديانا والتعبير عن مكانتها السامية في عالم الشعر والأفكار. وقد اعتبر هذا الموقف، من جانب النقاد، رداً حاسماً وواضحاً على نزعة جاكوبي الغيبية الصوفية. كما اعتبرت القصيدة بالتالي، أحد أهم النصوص التي تنم عن موقف غوته من الدين والشعر والفكر سواء بسواء.
في مقابل هذا تأتي قصيدة عنوانها «غزليات مهداة الى فلهلم تيشباين»، وتيشباين هذا كان رساماً صديقاً لغوته أمضى في رفقته فترة من الزمن في روما. أما النص نفسه، فإن غوته كتبه على شكل تقديم مبتكر لمجموعة من الرسوم حققها تيشباين وأراد نشرها في مجموعة. والحال ان هذا النص الشعري انما يكشف، وفق الباحثين، «حنين الشاعر الكبير الى الفن التصويري الذي نما حبه لديه دائماً بشغف كبير، وكان خلال حقبة ما من حياته يريد له ان يكون مهنته ومبرر وجوده». وغوته نفسه يفيد كثيراً حول هذا الأمر وحول خيبة أمله الكبيرة تجاهه في نص شهير له عنوانه «الشعر والحقيقة». والحال ان هذا النص، اضافة الى هذه القصيدة، التي يحكي فيها غوته عن الرسم وكأنه فردوسه المفقود، منادياً ربات الالهام إن استطاعت مساعدته في ذلك، يقولان لنا الكثير حول أسى غوته لأنه لم يتمكن من أن يكون رساماً على الاطلاق، لا بالقلم ولا بالريشة، علماً أن هذه الحسرة ليست مبررة كلياً طالما اننا نعرف أن غوته خلّف رسوماً وبعض لوحات ذات مستويات فنية لافتة، وبعضها يضعه في مكانة متقدمة حتى بين كبار رسامي زمنه. ولكن نعرف من ناحية أخرى أن فناناً وكاتباً كان يسعى دائماً الى أن يدنو من الكمال، ما كان في وسعه أن يرضى حقاً عن إنتاج ينجزه، ولا يكون في المكانة الأولى. حسناً… قد يكون فن غوته جميلاً ولافتاً، لكنه لا يتيح له أن يقف في مكانة أولى بين الرسامين… من هنا لا يبقى لديه سوى الحسرة التي طفق طوال حياته يعبر عنها، ولا سيما في هذه القصائد التي قال عنها الباحثون إننا قادرون على أن نجد فيها، على أية حال، الأحاسيس والمشاعر الرؤى المتناسقة نفسها التي يمكن هاوي الفن التشكيلي الحقيقي، ان يجدها في اروع اللوحات. لقد كتب غوته، هنا، أشعاره، في شكل جعلها تبدو كاللوحات الزاهية الملونة ولا سيما في مجال تحديد أطر اللغة الشعرية كما يحدد الرسام أطر لوحته الخطوطية. ومن هنا لم يكن بعيداً من الحقيقة ذلك الباحث الذي، إذ تناول قصائد غوته هذه، قال: «اننا في غوته الشاعر الذي كتب هذه القصائد طوال حقب وحقب من حياته الطويلة، لقادرين على أن نرى، حقاً، غوته الرسام… الرسام الذي خيل لغوته انه لم يكنه أبداً… لكنه كانه في حقيقة أمره».
وولفغانع غوته (1749 – 1832) كان رساماً بالكلمات، لكنه كان أيضاً فيلسوفاً في الحوارات المسرحية (كما في رائعته «فاوست») وشاعراً في رواياته («لوت في فيمار» و «أشجان فرتر») وحاذقاً محباً للتاريخ وللطبيعة غائصاً في سيكولوجية البشر، وفي خلفيات الأحداث، في كتابته للمسرح وللفلسفة وللنقد وللنصوص العلمية وبخاصة للشعر الذي كان كبيراً كلاسيكياً من كباره.
المصدر: الحياة