انطباعاتقصة قصيرة

إعترافات قرد شيناغاوا – هاروكي موراكامي

ترجمة: يحيى الشريف

تحرير وتدقيق : سهام  سايح

صادفتُ قردًا مسنًّا عند نُزل ضئيل الحجم ذو طراز ياباني في مدينة ذات ينابيع ساخنة  بمحافظة غونما قبل حوالي خمسة أعوام. كان نُزلاً ريفيًا بسيطًا  أو؛ بدرجة أكبر آيلاً للسقوط تقريبًا، صامدًا بشق الأنفس، حيث أمضيت هناك ليلة فحسب.

كنتُ مسافرًا، فأينما قادتني روحي ذهبت، وصلت الساعة السابعة مساءً عند المدينة ذات الينابيع الساخنة و نزلت من القطار. كان الخريف على وشك أن ينقضي، لم تبرح الشمس مكانها لبرهة من الزمن قبل أن تغيب، إذ غَشّى المكان عتمة زرقاء داكنة خاصة في المناطق الجبلية.  هبّت ريحٍ باردة و عاتية قادمة من قمم ٍ جبلية، تحمل أوراقًا  بحجم قبضة اليد يملأها صوت الخشخشة  على طول الشارع.

سرتُ وقد تجاوزت وسط المدينة بحثًا عن مكان لأمكث فيه، ولكن لا تستقبل النزل اللائقة الضيوف بعد ساعات العشاء. توقفت عند خمس أو ستة أماكن، ولكن جميعها ردّتني خائبًا. أخيرًا، صادفت نُزلاً استجاب لطلبي في منطقة مهجورة خارج المدينة. كان مكانًا موحشًا، وآيلاً للسقوط، فندقٌ رخيصٌ تماماً. من المؤكد أنّه شهد مرور الكثير من السنوات، لم تكن ثمّة جاذبية غريبة تتوقعها في نُزل قديم. تتناثر بها المعدات هنا وهناك دون ترتيب.

رتبت المعدات كيفما اتفقت لكنها لم تنسجم مع بقية المكان. انتابتني الشكوك ما إذا كانت ستصمد لهزة أرضية قادمة، بمقدوري أن أتمنى فحسب بأن لا يضرب زلزال حين أكون هناك.

لا يُقدِّم النُزل وجبة العشاء، ولكن اشتمل على وجبة  الإفطار ، فسعر الليلة الواحدة رخيص بشكل لا يُصدق . عند مدخل مكتب الاستقبال البسيط، يقبع شيخ أصلع بالكامل – يخلو وجهه من الحاجبين أيضًا- دفعت له ثمن ليلة واحدة مُقدمًا. افتقار وجه الشيخ  من الحاجبين يبرز كبر عينيه ولمعانًا غريبًا بشكل صارخ.  ثمّة قطة  ترقد على وسادة في الأرض بجانبه، كبيرة و بُنية اللون. مسنّة مثله، يبدو أنها تغط في نوم عميق. لا بّد أن ثمّة  شيئا ما غريبا بشأن أنفها، فهي تشخر بصوت أعلى من أي قطً سمعته على الإطلاق. أحيانًا تفقد إيقاع شخيرها بشكل متقطع. بدا كل شيء في النُزل قديمًا ويتهاوى.

الغرفة التي عُرضت عليّ  ضيقة ، مثل منطقة التخزين حيث يحتفظ النزيل بفراش فوتون الياباني؛ يظهر ضوء السقف خافتاً ، و تصرّ الأرضية تحت الحصير الياباني ما ينذر بالسوء بكل خطوة. غير أنّه فات الأوان على أن أهتم  بالتفاصيل. قلت لنفسي يتعيّن عليّ أن أكون سعيدًا أن أنال سقفا يؤوي رأسي وفوتونا للنوم عليه.

وضعتُ على الأرض قطعة واحدة من أمتعتي، حقيبة كتف كبيرة، وفكرت في رحلتي إلى المدينة ( لم تكن الغرفة  المنشودة  تمامًا و التي تمنيت الاسترخاء فيها). ذهبت إلى متجر مجاور لبيع شعيرية سوبا اليابانية وتناولت عشاءً بسيطًا . ذلك العشاء أو أبقى بدونها ، حين لم تكن مطاعم أخرى مفتوحة. لديّ جعة ، وبعض الوجبات الخفيفة، و قليل من شعيرية سوبا الساخنة.  كانت سوبا عادية ـ وشوربة فاترة ، ولكن أقولها مجددًا ، لم أكن أظهر استيائي بشأنها. تغلبت على فكرة الذهاب إلى الفراش  بمعدة فارغة . بعد أن غادرت متجر سوبا، اعتقدت بأنّني أرغب بشراء بعض الوجبات الخفيفة وقارورة ويسكي صغيرة، ولكن لم يكن بوسعي أن أجد  متجرًا بساعات عمل متواصلة . كان ذلك بعد الساعة الثامنة مساءً، و الأماكن الوحيدة التي وجدتها  مفتوحة هي مراكز ألعاب الرماية  في المدينة ذات الينابيع الساخنة. لذا سرت عائدًا إلى النُزل، ارتديت رداء إياكاتا، وذهبت إلى الطابق السفلي للاستحمام.

مقارنة مع مبنى رثٍ وبالي بمرافقه، بدا حوض الينابيع الساخنة في النُزل رائعًا و مدهشًا، وبخار الماء كثيفًا يميل للخضرة، ورائحة الكبريت حادة أكثر من أي شيء جربته على الإطلاق، فغمرتُ نفسي هناك، وأدفأتُها حدّ النخاع.  لم يكن ثمّة مستحمون آخرون ( لم تكن لدي فكرة إذا كان ثمّة  ضيوفٌ في النُزل)، بات بمقدوري أن أستمتع  لمدة أطول في الحوض بروية .شعرتُ بعد برهة بالدوار وخرجت كي ألتقط أنفاسي، ثم عدتُ إلى حوض الاستحمام. ربّما هذا النُزل المتداعي خيارٌ جيّد بعد كل ذلك، كما اعتقدتْ. بلا شك إنه أكثر إحساسًا بالأمان من الاستحمام مع بعض السيّاح المزعجين الذين تجدهم في النُزل الكبرى.

غمرتُ نفسي في الحوض للمرة الثالثة بينما انزلق القرد ودخل بصخب  من الباب الأمامي المفتوح . ‘‘المعذرة’’ قالها بصوتٍ منخفض. تطلّب مني الأمر ثواني كي أستوعب بأنّه قرد. غمرتني كلُّ تلك المياه الساخنة الكثيفة في حالة من الذهول، ولم أتوقع على الإطلاق بأنّني أسمع قردًا يتحدث، لذا لم يكن بإمكاني  أن أبني صلة في الحال  بين ما كنت أشاهده و حقيقة مفادها أن ذلك قرد حقيقي.  أغلق القرد الباب خلفه، وعدّل الدلاء المبعثرة و وضع ميزان الحرارة في الحوض لمعاينة درجة حرارته. حدّق بعينيه باهتمام في عقرب الميزان، وضاقت عيناه على اتساع العالم مثلما يعزل عالم البكتيريا  بعض السلالات الجديدة المسببة للمرض .

سألني القرد ‘‘ كيف وجدت الاستحمام في الحوض؟’’

قلت أنّه رائع للغاية . شكرًا لك.’’  ترددت أصداء صوتي بكثافة ، برفق، عند البخار. بدت خرافية تقريبًا، ليس مثل صوتي الذي أعرفه ولكن، نوعًا ما ، مثل صدى الصوت  الآتي من الماضي من سحيق الغابة . كان ذلك الصدى … توقف لحظة.   ماذا يفعل قرد هنا؟ ولماذا تحدث بلغتي؟.

سألني القرد ‘‘هل أقوم بدَعك ظهرك؟ ’’ ، ما زال صوته منخفضاً . كان صوته واضحاً وجذاباً  جهيراً كما موسيقى  دوو- ووب. ليس على الإطلاق ما تتوقعه. غير أن لا شيء غريباً بشأن صوته: لو أغلقت عينيك واستمعت، سوف تعتقد بأنّه شخص عادي يتحدث.

أجبتُ ‘‘ نعم ، شكراً جزيلاً.’’ لم يكن كما لو أنني أجلس هناك  متمنياً بأن يأتي شخص ما و يقوم بدَعَك ظهري، ولكن كنت أخشى إذا رفضته أن يعتقد بأنّني أعارض أن يقوم قرد بذلك. اعتبرت  ذلك عرضًا ودياً من جانبه، وبالتأكيد لم أرغب أن أؤذي مشاعره. لذا نهضت خارج الحوض ببطء وألقيت بنفسي على المنصة الخشبية الصغيرة،  ووجهت ظهري للقرد.

لم يكن القرد يرتدي أية ملابس. والتي بالطبع  هو الحال عادة  بالنسبة للقرد، لذا لم أصدم بغرابة ما يحدث. بدا مسنًّا تمامًا، لديه الكثير من الشيب في شعره. أتى بمنشفة صغيرة، وقام بدَعَك الصابون عليها، ودغدغ ظهري بيديه الخبيرة ، تدليكٌ جيد.

قام القرد بإبداء رأيه ‘‘ لقد أضحى الطقس باردًا  للغاية هذه الأيام ، أليس كذلك؟’’.

‘‘نعم إنّها كذلك’’.

‘‘ قبل أن يُغطى هذا المكان بالثلج لفترة طويلة، سيتعيّنُ عليهم أن يقوموا بجرف الثلج من السقوف ، ليست مهمة سهلة ، صدقني.’’

قفزت بسؤال بعد توقف وجيز؛ ‘‘ لذا يمكنك أن تتحدث بلغة البشر؟’’.

أجاب القرد بخفة ‘‘ بمقدوري بالفعل .’’ ربّما سُئل عن ذلك كثيرًا . ‘‘ لقد ترعرعت على يد البشر منذ  سنوات عمري الأولى ، وقبل أن أعرف  بأنني أجيد التحدث. عشت لفترة طويلة في طوكيو، في حيّ شيناغاوا .’’

‘‘في أي جزء من حي شيناغاوا؟’’

‘‘ حول غوتنياما.’’

‘‘ إنّها منطقة رائعة’’.

نعم، كما تعلم، إنّه مكان ساحر للعيش فيه. يجاور حديقة غوتنياما، فقد استمتعت بالمنظر الطبيعي هناك.’’

عمّ  السكون بعد حوارنا عند هذه النقطة. واصل القرد دَعَك ظهري بثبات (كان شعورًا رائعًا)، فحاولت طوال الوقت  أن أفكر بالأمر بعقلانية. قرد ترعرع في شيناغاوا؟ و في حديقة غوتنياما؟ كما يتحدث لغة بشرية بطلاقة ؟  كيف أمكن ذلك ؟ يا إلهي ، فهذا قرد. وليس شيئاً آخر.

قلت ‘‘ أسكن في  ميناتو- كو.’’ قول لا معنى له جوهريًا.

ردّ القرد بنبرة وديّة ‘‘ إذن ، كنا جيرانًا تقريبًا’’ .

سألت القرد ‘‘ ماذا يفعل الشخص الذي تربيت عنده في شيناغاوا؟‘‘.

سيدي أستاذ جامعي. تخصَّص في  الفيزياء، ثم  شغل كرسياً في جامعة طوكيو غاكوجي.’’

‘‘إذن، مفكر إلى حد كبير.’’

‘‘كان بالتأكيد كذلك، أحب الموسيقى أكثر من أيّ شيء آخر، لاسيّما موسيقى بروكنر و ريتشارد شتراوس. بصنيعهما، قمت بتطوير ولعي إلى هذه الموسيقى بنفسي. استمعت لها طوال الوقت.  يمكنك القول بأنّني حزت على معرفة واسعة دون أن  أدرك ذلك.’’

هل استمتعت  بموسيقى بروكنر؟

‘‘نعم. أجد دومًا سيمفونيته السابعة، لا سيّما الحركة الثالثة رفيعة المستوى.’’

تناغمت مع حديثه ‘‘ أستمع غالبًا إلى سيمفونيته التاسعة.’’ في قول  آخر لا معنى له.

ردّ القرد ‘‘نعم، هذه موسيقى رائعة بحق.’’

‘‘ لذا هل البروفيسور من علمك اللغة؟’’.

‘‘نعم قام بذلك. كان رجلاً عقيماً؛ و ربّما حاول أن يُعوِّض ذلك بتدريبي بصرامة إلى حد ما كلّما كان لديه وقت، فهو صبور للغاية، و يضع الاحترام والانتظام فوق كل شيء، شخص جاد؛ و لديه مقولة مفضلة “إعادة الحقائق الدقيقة هي الطريق إلى الحكمة“. أما زوجته هادئة ، لطيفة و تعاملني دوماً بحنان. إنّهم على وفاق، أتُعتع أن أذكر هذا لشخص ٍغريب، ولكن، صدقني، يمكن أن تكون أنشطتهم الليلية مكثفة للغاية.’’

قلت ‘‘ حقًا.’’

أتمّ القرد دَعَك ظهري أخيراً. قال لي ‘‘ شكراً على سعة صدرك’’ وانحنى برأسه .

قلت له ‘‘ شكرًا لك’’ إنّه لإحساس رائع. لذا ، هل تعمل هنا في هذا النُزل؟’’.

‘‘نعم أعمل هنا. إنّهم كرماء بما يكفي للسماح لي بالعمل هنا. لا توظف الفنادق الكبيرة قردا على الإطلاق. غير أن لديهم هنا نقصًا في الأيدي العاملة ، لا يهتمون إذا كنت قرداً أو أيًّا كان . يُدفَع لي الحد الأدنى للأجر  كقرد ، ويدعونني أعمل  فحسب أينما يمكنني البقاء بعيدا عن الأنظار خصوصًا ترتيب منطقة حوض الاستحمام، و التنظيف، أشياء من هذا القبيل.سيصاب معظم الضيوف بالصدمة  لو قدَّم لهم قرد الشاي  وهكذا . العمل في المطبخ ممنوع،جداً ، سأواجه مشكلات مع قانون الغذاء والصحة العامة.’’

سألته ‘‘ هل عملت هنا لمدة طويلة ؟’’.

‘‘ لقد مضت حوالي ثلاثة أعوام.’’

‘‘  ومع هذا  قد تكون خضت الكثير  قبل  أن تستقر هنا ؟’’.

أومأ القرد بسرعة ‘‘ صحيح تماماً .’’

تعتعت في الكلام، ولكن  انسل مني كما ينسل السيف من غمده فسألته  ‘‘ إذا لم تمانع ، هل يمكنك أن تسهب أكثر عن ماضيك؟ ’’.

فكر القرد في هذا السؤال، ثم قال ‘‘ نعم ، لا بأس بذلك .ربّما لا تكون محط اهتمام كما تتوقع، لكنني  خارج الدوام عند الساعة العاشرة  و يمكنني أن أمرّ على غرفتك بعد ذلك. هل يناسبك ذلك ؟ ’’

أجبته ‘‘بالتأكيد’’. ‘‘ سأكون ممتناً لو يمكنك أن تجلب معك بعض الجعة.’’

‘‘ عُلم. بعض الجعة الباردة.  هل موافق على  نبيذ سابورو ؟’’

‘‘ لا بأس بذلك. إذًا ، هل تشرب الجعة؟’’

‘‘ نعم ، قليلاً.’’

‘‘ إذن أرجو أن  تجلب معك قارورتين كبيرتين.’’

‘‘ بالطبع. إذا فهمتك بشكل صحيح، هل ستمكث في جناح أرايزو، في الطابق الثاني؟ ’’.

قلت له ‘‘ هذا صحيح.’’

قال القرد ‘‘بالرغم أنّه غريب بعض الشيء ، ألا تعتقد ذلك؟’’  يضحك القرد قائلاً ‘‘ نُزلٌ عند جبلٍ مع غرفة اسمها أرايزو على شاطئ وعرّ.’ ’’ لم أسمع على الإطلاق بقرد يضحك. إلاّ أنّني أعتقد بأن القرود تضحك، و حتى تبكي، في بعض الأحيان.  لا ينبغي أن يفاجئني الأمر، نظراً لأنّه كان يتحدث’’.

سألته ‘‘ بالمناسبة ، هل لديك اسم؟.’’

‘‘ كلا ، بدون أسماء، بحد ذاتها.إلا أنّ الجميع ينادونني بقرد شيناغاوا.’’

تزحلق القرد لفتح الباب الزجاجي، استدار، و انحنى بأدب، ومن ثمّ أغلق الباب ببطء.

أتى القرد قبل العاشرة بقليل إلى جناح أرايزو ، يحمل صينية مع زجاجتين كبيرتين من الجعة . بالإضافة إلى ذلك، تحتوي الصينية فاتح القارورة، كأسين، ومع بعض الوجبات الخفيفة: عبارة عن حبّار مجفف ومتبّل و كيس من كاكيبي -عبارة عن مقرمشات الأرز  مع الفول السوداني-. وجبات خفيفة نموذجية . يبدو قرداً ذكياً. .

ارتدى القرد بنطالاً رياضاياً رمادياً، و قميصاً سميكاً بأكمام طويلة مطبوع عليها ‘‘ أحبك يا نيويورك’’ ، ربما تعود هذه الملابس لأحد الأطفال الذي لم يعد يرغب بها.

‘‘لم يكن ثمّة منضدة في الغرفة، لذا جلسنا ،جنباً إلى جنب، على مخدات زابوتن، أسندنا ظهورنا إلى الجدار. استخدم القرد فتاحة القارورة لفتح غطاء الجعة وسكب كوبين . تقعقعت أكوابنا معاً بصمت في نخب بسيط.

قال القرد ‘‘ شكراً على الشراب’’ ارتشف الجعة الباردة بسعادة . شربتُ بعض الكؤوس أيضًا. بصدق ، إنّه لشعور غريب كوني جالسا بجانب قرد، وأشاركه الجعة ، إلا أنّني أعتقد أنك اعتدت على ذلك.

ردّ القرد ‘‘ الجعة بعد العمل لا يمكنك تحملها’’  مسح فمه بذراعه المشعرة . ‘‘ بالنسبة للقرد، فرص أن أحظى على جعة مثل هذه قليلة وبعيدة.’’

‘‘ هل تعيش هنا في النُزل ؟’’.

‘‘نعم ، ثمّة غرفة في العلّية ، حيث يسمحون لي بالنوم. ثمّة فئران من وقت إلى آخر ، لذا من العسير أن أرتاح هناك، ولكن أنا قرد، إذن عليّ أن أكون شاكراً وممتناً أن أحظى بفراش للنوم عليه وثلاث وجبات في اليوم . ليست جنة أو أي شيء آخر.’’

لقد أنهى القرد كأسه الأول، لذا سكبت له آخر.

قال بأدب ‘‘ ممتن للغاية.’’

سألته ‘‘ هل عشت يوماً ما ليس مع البشر ولكن مع بني جنسك؟ أعني مع قردة آخرين؟’’ هناك العديد من الأشياء أردتُ أن أسأله عنها.

أجاب القرد بوجهٍ متعكر قليلاً  ‘‘ نعم ، عدة مرات.’’ شكلت التجاعيد تلك  بجانب عينيه طيات عميقة. ‘‘ لأسباب متنوعة ، طُردت قسراً ، من شيناغاوا و أخُليت في تاكاساكياما؛ المنطقة الجنوبية التي تشتهر بمنتزه القرود. اعتقدت أول الأمر أنني بوسعي أن أعيش بسلام هناك، ولكن لا تسير الأشياء على هذا النحو. كانت القردة الأخرى رفاقي الأعزاء، لا تفهمني بشكل خاطئ، إلا أنني قد حظيت بتربية أسرة بشرية، بفضل البروفيسور وزوجته، فليس باستطاعتي أن أعبِّر عن مشاعري جيداً إليهم. ولم يكن لدينا سوى القليل من القواسم المشتركة، و لم يكن التواصل سهلاً. قالوا لي ‘  تتحدث بشكل مضحك’، كانوا يسخرون مني ويتنمرون عليّ. تُطلق زناءة* القردة قهقهة عندما ينظرون إليّ. القردة حساسون للغاية حول الاختلافات. وجدوا الطريقة التي أتصرف بها هزلية، وتزعجهم، وتثير غضبهم في بعض الأحيان. أضحى شاقًا علي ّ أن أبقى هناك، لذا في نهاية المطاف خرجت من تلقاء نفسي. بتُ قرداً شاذاً، بعبارات أخرى.’’

‘‘لابّد أنك شعرت بالعزلة والوحدة؟’’.

‘‘ بالتأكيد. لم يقم أحد بحمايتي، ولقد استجديت لأحظى ببعض الطعام بمفردي و لأبقى على قيد الحياة بطريقة ما.و لأنّني لم أحظى بالتواصل مع شخص ما بات أسوأ شيء.  ليس بمقدوري أن أتحدث مع القردة أو البشر. عزلة كهذه  تنفطر لها القلوب.  تمتلئ تاكاساكياما بالبشر الزوار ، ولكن لا يمكنني أن أخوض حواراً مع أي شخص كان أصادفه’’  .

‘‘ولا يمكنك  أن تستمع إلى بروكنر أيضًا.’’

تفوّه قرد شيناغاوا ‘‘ هذا صحيح. ذلك ليس جزءًا من حياتي الآن’’ وشرب بعض كؤوس من الجعة. درست وجهه، مع أن وجهه أحمر منذ البداية ، لم ألحظ  بأنّه بات أكثر احمراراً بسبب بضعة كؤوس من الشراب.  تخيلت بأنّ هذا القرد يمكن أن يتحمّل شرابه. أو ربّما لا يمكنك أن تعرف عبر وجوه القردة بأنّهم في حالة سُكر.

‘‘ أما الشيء الآخر الذي عذبني حقاً هي العلاقات مع الإناث.’’

قلت له ‘‘ فهمت.’’ ماذا تعني بأي علاقة مع الإناث—؟’’

‘‘ باختصار، لا أشعر بذرة رغبة جنسية إلى زناءة القردة. حظيت بكثير من الفرص أن أكون معهن، ولكن لم أشعر بلذة وبنفسي على الإطلاق.’’

‘‘ لذا لم تنجذب إلى زناءة القردة ، بالرغم من أنك قرد أيضًا؟’’

‘‘ نعم. ذلك صحيح. إنّه لأمر محرج ، لكن صدقاً، لا يمكنني  أن أحب سوى  إناث البشر.’’

كنت أفرغ بصمت كأس الجعة . فتحتُ كيس الوجبات المقرمشة و أمسكت بحفنة. ‘‘  أعتقد بأن ذلك  من الممكن أن يؤدي إلى بعض المشاكل الحقيقية’’.

‘‘ نعم، مشاكل حقيقة، في الواقع . كوني قرداً، بعد كل شيء، لم يكن ثمّة طريقة يمكنني أن أتوقع بأن تستجيب فيها إناث البشر إلى رغباتي. بل إن هذا يخالف علم الوراثة.’’

انتظرته أن يسهب في الحديث. قام القرد بدَعَك خلف أذنه بشدّة ومضى يتحدث أخيرًا.

‘‘ لذا كان عليّ أن أجد طريقة أخرى لتخليص نفسي من رغباتي التي لم تتحقق.’’

‘‘ماذا تعني ب ‘طريقة أخرى‘ ؟’’.

قطّب القرد وجهه بشدّة. أضحى  وجهه الأحمر أكثر قتامة.

قال القرد ‘‘ ربّما لم تصدقني .’’  ‘‘ من المحتمل أن لا ترغب بتصديقي ، يتعيّن عليّ أن أقول . طفقت أسرق أسماء النساء اللاتي وقعت بغرامهن.’’

‘‘تسرق  أسماءهن؟’’ .

‘‘ صحيح. لست متأكدًا من السبب، ولكن يبدو بأنني ولدت بموهبة خاصة لذلك. لو شعرت بأنني أحببتها، بمقدوري أن أسرق اسم المرأة وجعله خاصًا بي.’’

داهمتني موجة من الارتباك.

قلت له ‘‘ لست متأكداً من أنّني فهمت.’’ ‘‘عندما تقول بأنك تسرق أسماء النّاس، هل تعني بأنّهم يفقدون أسمائهم؟’’

‘‘ كلا. لا يفقدون أسمائهم كلياً . أسرق جزءًا من أسمائهم. بينما أخذ ذلك الجزء يفقد الاسم جوهره ، يصبح أخفّ من ذي قبل. مثلما السحب  تغشى الشمس و تصبح ظلالك على الأرض  أكثر شحوباً. قد لا يَعُون بمشاعر الخسارة. فهذا يعتمد على الشخص. قد يكون لديهم إحساس فحسب  بشيءٍ ما بعيداً بعض الشيء  .’’

‘‘ إلاّ أن بعضهم يدرك  ذلك بوضوح ،أليس كذلك؟ ذلك  أن جزءًا من أسمائهم فقُدت؟’’

‘‘ نعم ، بالطبع. يجدون في بعض الأحيان بأنّه ليس بوسعهم أن يتذكروا أسمائهم. فذلك غير مريح تماماً، إنه إزعاج حقيقي ، كما قد تتخيل. قد لا يميزون ماهية أسمائهم. يعانون في بعض الحالات من خلال شيء ما قريب من  أزمة الهوية . هذا خطئي برمته، منذ أن سرقت اسم ذلك الشخص. أشعر بالأسف حيال ذلك. غالباً أشعر بحجم تأنيب الضمير الملقى على عاتقي.  أعرف أن ذلك خطأ،  فمع ذلك لا يمكنني منع نفسي. لا أحاول أن أبرِّر تصرفاتي، ولكن مستويات الدوبامين لدي تجبرني أن أفعل ذلك. كأن ثمّة صوتًا يقول لي ، ‘ مرحباً، افعلها، اسرق الاسم. لا يبدو أنّ الأمر غير قانوني أو أي شيء آخر.’’

شددت يدي إلى الخلف ودرست القرد. دوبامين؟ تحدثتُ أخيراً. ‘‘ تسرق تلك الأسماء لأولئك النساء عن حب أو رغبة جنسية. هل صحيح ما أقوله؟ ’’

‘‘ بالضبط. لا أسرق اسم  أي شخص عشوائياً فحسب.’’

‘‘ كم عدد الأسماء التي سرقتها؟’’

بتعبير جاد، بلغ  القرد مجموع ما وصل إليه بأصابعه . كما حسب، دمدم شيئا ما . نظر إلى الأعلى . ‘‘ سبع أسماء. سرقت أسماء سبعة نساء.’’

هل هذا كثير ، أم لا ؟  من يستطيع أن يقول؟

سألته ‘‘ كيف تفعل ذلك إذن؟  ‘‘ إذا لم تمانع أن تخبرني؟’’

‘‘إنها قوة الإرادة في الغالب . قوة التركيز، والطاقة النفسية. غير أن هذا ليس كافياً، أفتقر إلى شيء ما مكتوب عليه اسم الشخص في الواقع. تعتبر البطاقة الشخصية خيارا مثاليا. رخصة القيادة، بطاقة تعريف الطالب، بطاقة التأمين، أو جواز السفر. شيء من هذا القبيل. ستؤدي الغرض بطاقة الاسم أيضاً . على كل حال، أحتاج إلى أشياء حقيقة  مثل واحدة من تلك . السرقة هي الطريقة الوحيدة عادة. أملك مهارة التسلل إلى غرف الناس بينما يكونون خارج المنزل. أستطلع المكان لشيء ما مع أسمائهم عليها وأخذها.’’

‘‘ لذا أنت تستخدم الأغراض التي مكتوب عليها اسم المرأة ، بجانب قوة إرادتك، لسرقة الاسم؟’’

‘‘بالضبط. أحدق في الاسم المكتوب هناك لمدة طويلة، فأركز على عواطفي، يستحوذ اسم الشخص الذي أحبه على انتباهي . تتطلب الكثير من الوقت و الأمر مرهق عقلياً وجسدياً. انغمست فيه كلياً، فأضحى جزء من المرأة جزءًا مني. لم يكن لعاطفتي ورغبتي من متنفس حتى ذلك الوقت، أما الآن باتت مرضية بأمان .’’

‘‘لذا ليس ثمّة شيء  ذا صلة ماديا ؟’’

أومئ القرد بحدة . ‘‘ أعرف بأنني مجرد قرد حقير، ولكنني لا أقوم بأي شيء غير ملائم على الإطلاق. ما أقوم به سوى أن جعل اسم المرأة التي أحبها جزءًا مني- هذا كثير بالنسبة لي-. أتفق بأن هذا التصرف يبدو منحرفاً، ولكني أيضاً أتصرف بنقاء أفلاطوني كلياً. استحوذ على حب كبير للاسم في داخلي ببساطة، وسرية.  كنسيم لطيف يهب على المروج.’’

قلت له  متأثراً ‘‘اممم.’’  ‘‘أعتقد أنه بوسعك أن تدعو بذلك النموذج النهائي للحب الرومانسي.’’

‘‘ أتفق . إلا أنّها نموذج نهائي من الشعور بالوحدة أيضاً. مثل وجهي العملة المعدنية . الطرفان ملتصقان معاً بشدة ولا يمكن فصلهما.’’

توقف حوارنا هنا، أضحينا أنا والقرد في صمت مطبق شربنا الجعة ، وتناولنا الوجبة الخفيفة  كاكيبي و الحبّار المجفف.

سألته ‘‘ هل سرقت اسم أحدهم مؤخراً؟’’

هزّ القرد رأسه. انتزع بعض الشعر الخشن على ذراعه، كما لو يود أن يوقن  بأنه قرد حقيقي بالفعل. ‘‘ كلا ، لم أقم بسرقة اسم مؤخراً. عندما أتيت إلى المدينة ، حسمت أمري  لوضع  الماضي خلفي، ذلك النوع من سوء السلوك. بفضل ذلك،  لقد عثرت روح هذا القرد الضئيل على جرعة من الأمان. تعلّقت بأسماء سبعة نساء في قلبي وأعيش حياة هادئة ومطمئنة. ’’

قلت له ‘‘ أنا سعيد أن أسمع ذلك.’’

‘‘أعلم بأن هذه خطوة جريئة بالنسبة لي، ولكن كنت أتساءل إذا تكون لطيفاً بما يكفي بأن تسمح لي بإبداء رأيي حول موضوع الحب.’’

قلت ‘‘ بالطبع.’’

يومض القرد بعينيه عدة مرات. ملوحاً برموش عينيه الكثيفة صعوداً وهبوطاً مثلما يلوح سعف النخل عندما تهب نسمة. أخذ نفسا عميقا وبطيئا، كنوع التنفس الذي يتنفسه  متسابق القفز قبل أن يبدأ السباق.

‘‘ أؤمن بأنّ الحب دعم لا غنى عنه لنا لكي تستمر الحياة. يوما ما يخبو الحب. أو ربما لا يصل إلى شيء إطلاقًا. حتى لو يتلاشى الحب، حتى لو بدون مقابل، بوسعك أن تنعش الذاكرة لتحظى بشخص تحبه، أو تغرم بشخص ما. هذا منشأ قيّم للدفء. بدون منشأ دافئ، فقلب الشخص- وقلب القرد أيضاً- قد يتحول إلى برودة لاذعة في أرض قاحلة.  المكان حيث لا تنعكس عليه  أشعة الشمس، أينما أمان الورود البرية، وأشجار الأمل، لا تحظى بفرصة للنمو. هنا داخل فؤادي،  تعلقت بأسماء أولئك النساء السبعة الحسناوات التي أحببتهن. .’’ استلقت يده على صدره  المكسو بالشعر. أخطط أن أستخدم  تلك الذكريات كمصدر دعم ضئيل لتدفئة الليالي الباردة، لتبقيني دافئاً لأحيا ما تبقى من حياتي الخاصة .’’

ضحك القرد مرة أخرى ، هزّ رأسه برفق بضع مرات .

أكمل كلامه ‘‘ إنّها طريقة غريبة لسردها ، أليس كذلك؟  ‘‘ الحياة الشخصية. نظراً لأنني قرد، ولست بني آدم . ههه هه ! ’’

فرغنا أخيراً من شراب الزجاجتين الكبيرتين من الجعة عند الساعة الحادية عشر ونصف.  قال القرد ‘‘ يجب أن أذهب’’. ‘‘حظيت بشعور رائع للغاية أخشى أنني أثرثر كثيراً. اعتذاراتي.’’

قلت له ‘‘ كلا ، وجدتها قصة مشوقة .’’   ربما  ‘‘ مشوقة’’ ليست الكلمة الصحيحة، على الرغم من أنني أعني،  مشاركة الجعة و الدردشة مع قرد كانت تجربة غير عادية  واستثنائية في حد ذاتها.  إضافة إلى ذلك حقيقة بأن هذا القرد بالذات أحب بروكنز وسرق أسماء نساء لأنه كان مدفوعاً برغبته الجنسية ( أو ربما الحب)، و لم تُطفق  كلمة ‘‘ مشوقة’’ بوصفها. كانت أكثر شيء لا يصدق ولم أسمع بها على الإطلاق. غير أنني لم أرد إثارة عواطف القرد مرة أخرى بعدما بات ضرورياً، لذا اقترعت الكلمة الأكثر هدوءًا وحيادية .

كما ودّعنا بعضنا ، منحت القرد فاتورة ألف ين كبقشيش، قلت له ‘‘ ليس كثيراً’’ ‘‘ ولكن أرجو أن تشتري لنفسك وجبة جيدة  لتأكل.’’

رفض القرد في بادئ الأمر، ولكن أصررت على ذلك فقبلها أخيرا. قام بطيِّ الأموال ودسِّها بعناية في جيب بنطاله الرياضي.

ردّ القرد ‘‘ إنه لطف كبير  منك .’’  ‘‘  لقد استمعتَ إلى قصة حياتي السخيفة ، وأكرمتني بشراب الجعة ، و الآن هذه الإيماءة السخيّة. لا يسعني أن أقول لك كم أقدر ذلك .’’

وضع القرد زجاجتي الجعة و الأكواب على الصينية وحملها إلى خارج الغرفة .

أردت أن أنهي إجراءات خروجي من الفندق  في صباح اليوم التالي عائداُ إلى طوكيو. عند المنضدة الأمامية، لم أر الشيخ الأصلع المخيف الذي ظهر بدون شعر أو حواجب في أي مكان، ولا القطة المسنّة التي تعاني مشاكل بأنفها.  بدلا ً من ذلك عثرتُ على امرأة سمينة عبوس  بمنتصف العمر، و عندما قلت لها  أرغب بدفع رسوم إضافية عن زجاجتي الجعة  لليلة الماضية أخبرتني بشكل قاطع ، بأنه لم يكن ثمّة رسوم طارئة على فاتورتي. أصرّت  المرأة السمينة بأن ‘‘ جميع ما لدينا هنا جعة معلبة من آلة للبيع بقطع نقدية .’’  ‘‘ لا نقدم قوارير جعة إطلاقاً.’’

ارتبكت مرة أخرى, شعرت كأن أجزاءً من الواقعية والخيال تبدل الأماكن عشوائياً. لقد شاركت زجاجتي جعة  سابورو مع القرد كما استمعت إلى قصة حياته.

عزمت أن أُحضر القرد للمرأة السمينة، إلاّ أنني قررت ألا أفعل. ربما القرد ليس موجوداً حقاً ، و قد يكون كل ذلك وهماً، نتاج لعقلٍ مخلل بنقع طويل في الينابيع الساخنة. أو ربما  ما رأيته بدا غريباً، و حلماً واقعياً. إذا تفوهت بالأمر وقلت مثلا ‘‘ لديك موظف وهو قرد مسن بوسعه  أن يتحدث، أليس كذلك؟’’ ربما قد تأخذ منحنى آخر، وأسوأ سيناريو، ستخال بأنني مجنون.  كانت فرص وجود قرد غير مدون كموظف، وليس بميسور النُزل أن يقدمه علانية  خشية أن ينبه  مكتب الضريبة  أو قسم الصحة .

قمت بإعادة كل شيء ذهنياً  ما أخبرني به  القرد أثناء ركوب القطار إلى البيت. قمت بتدوين جميع التفاصيل، بأفضل ما يمكن تذكرها، في دفتر الملاحظات الذي أستخدمه للعمل، أفكر عندما أعود إلى طوكيو سأكتب كل شيء من البداية إلى النهاية .

إذا كان القرد موجوداً بالفعل- وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنني عبرها رؤيته- لم أكن متأكداً  من مقدار ما يجب قبول ما قاله لي عند شرب الجعة. فمن الصعب أن أحكم على قصته بإنصاف. هل من المحتمل أنه سرق أسماء النساء و استحوذ عليهم بنفسه؟ هل هذه بعض القدرات الفريدة من نوعها التي لم تمنح سوى لقرد شيناغاوا ؟ ربما كان القرد مريضاً بالكذب. من يمكنه أن يقول ذلك؟ بطبيعة الحال لم  أسمع بأن قرداً مصاباً بالميثومانيا من قبل إطلاقاً، ولكن، إذا أمكنه أن يتحدث بلغة البشر بمهارة كما فعل، لن تكون وراء عالم من الاحتمالات بالنسبة له أكثر من كونه كاذباً اعتياديا.

أجريت مقابلات مع العديد من الأشخاص كجزء من عملي ، فقد بت ُجيداً  في التعرف على من يمكن تصديقه ومن لا يمكن . عندما يتحدث شخص ما لبعض الوقت، بوسعك أن تلتقط بعض التلميحات الخفيّة و الإشارات ونيل شعور بديهي سواء كان ذلك الشخص صادقاً أو لم يكن. لم أعثر على ذلك الشعور حول ما أخبرني به قرد شيناغاوا بأن القصة مختلقة. النظرة في عينيه و تعابيره، والطريقة التي تأمّل  بها الأشياء كل مرة في لحظة، ووقفاته، إيماءاته، و طريقة تعثره بالكلمات— لا شيء حوله بدا مصطنعاً  أو مجبراً. وفوق كل ذلك، وجدت ثمّة إخلاصاً  كاملاً وحتى مؤلماً في اعترافاته.

انتهت رحلة استرخائي المنفردة ، عدت إلى دوامة المدينة الروتينية.  حتى عندما لم يكن لدي مهام رئيسية متعلقة بالعمل، بطريقة ما، كما أتقدم في السن، وجدت نفسي منشغلاً أكثر من ذي قبل. يبدو أن الوقت يسير بخطى ثابتة سريعة. لم أقل في النهاية لأي شخص عن قرد شيناغاوا إطلاقاً، أو كتبت أي شيء بشأنه. لماذا أحاول طالما لا أحد سيصدقني؟ ما لم أقدم دليلاً— يثبت في الواقع وجود القرد— قد يقول الناس بأنني ‘‘ أختلق الأشياء فحسب مرة أخرى.’’  لو كتبت بشأنه قصة خيالية  قد يعوزها التركيز أو المقصد منها. بميسوري أن أتخيل جيداً نظرة الارتباك التي ستبدو على محيا محرري وهو يقول ‘‘  أتردد أن أسال، بما أنك مؤلف، ولكن ما هو موضوع القصة المفترض أن يكون ؟’’

موضوع؟ ليس بوسعي أن أقول بأن هناك موضوعا. إنه مجرد قرد مسن  يتحدث بلغة البشر، و يدَعَك ظُهور الضيوف في الينابيع الساخنة عند مدينة صغيرة بمقاطعة غونما، الذي يستمتع بالجعة الباردة، و يقع في غرام إناث البشر، ويسرق أسمائهن. أين الموضوع في ذلك. أو الأخلاق في ذلك؟

يمضي الوقت، وطفقت ذكرى المدينة ذات  الينابيع الساخنة تتلاشى . مهما كانت الذكريات الحية، ليس بوسعها أن تغزو الزمن.

الآن بعد مرور خمسة أعوام ، قررت أن أكتب بشأنها، وفقاً إلى الملاحظات التي دونتها في ذلك الوقت. كل ذلك لأن شيئاً ما حدث مؤخراً ما حدا بي أن أفكر بالأمر . إذا لم تقع الحادثة ، قد لا أكتب هذه.

كان لدي موعد متعلق بالعمل في صالة القهوة في فندق بمنطقة أكاساكا. يعمل الشخص الذي أنا بصدد مقابلته محرراً بمجلة سفر. فهي امرأة جذابة، ثلاثينية أو حول ذلك، ضئيلة الجسد، بشعر طويل، وبشرة جميلة، و عينان كبيرتان جذابتان .كانت محررة متمكنة. و ما زالت عازبة. عملنا معاً عدة مرات، و أضحينا على وفاق. بعدما اهتممنا بالعمل، جلسنا و دردشنا مع شربنا للقهوة لبعض الوقت.

رنّ هاتفها الخلوي ونظرت إليّ معتذرة. أشرت لها أن ترد على الاتصال. تحققت من الرقم  الوارد فأجابته. يبدو الاتصال بشأن  قيامها  ببعض الحجوزات. عند مطعم ، ربما، أو فندق، رحلة طيران. شيء على هذا المنوال. تحدثت لبعض الوقت ، تحققت من أجندتها، ثم  رمقتني بنظرة قلقة.

سألت بصوتٍ خفيض، ويدها تغطي الهاتف ‘‘ آسفة جداً ’’.  ‘‘ أعلم أنه سؤال غريب، ولكن ما هو اسمي ؟’’

شهقت شهقة تلقائياً كما استطعت، وقلت لها اسمها كاملاً. أومأت برأسها و تناوبت المعلومات مع  الطرف الآخر من الخط. ثم أغلقت الهاتف واعتذرت مجدداً.

‘‘ أنا آسفة للغاية بشأن ذلك. على حين غرة  لم أستطع تذكر اسمي. أشعر بالإحراج للغاية.’’

سألتها ‘‘ هل يحدث هذا في بعض الأحيان ؟’’

بدت تُعتع في الكلام، و لكنها أومأت أخيراً .  ‘‘ نعم ، تحدث كثيراً هذه الأيام. لا يمكنني فحسب تذكر اسمي كأنني فقدت الوعي أو شيء من هذا القبيل.’’

‘‘ هل تصابين بنسيان  أشياء أخرى أيضاً؟ مثلا لا يمكنك تذكر يوم ميلادك أو رقم هاتفك أو رقم سري؟ ’’.

هزت رأسها بحزم.‘‘ كلا ، على الإطلاق. لدي دوماً ذاكرة جيدة. أحفظ جميع تواريخ ميلاد أصدقائي. لم أنس اسم أي شخص آخر، ولا حتى مرة واحدة. إلا أنني  ما زلت بعض الأحيان لا أستطيع تذكر اسمي. لا يمكنني أن أكتشفها. بعد بضع دقائق، تعود ذاكرتي، ولكن  تلك بضع الدقائق غير مريحة أبداً، و تنتابني حالة هلع. كأنني لست نفسي مرة أخرى . هل تعتقد أنها علامة على ظهور مبكر لمرض الزهايمر؟’’

أطلقت تنهيدة . ‘‘ طبياً ، لا أعلم ، ولكن متى بدأ ، أنسيت اسمك فجأة ؟’’

نظرت بعينين نصف مغمضتين و فكرت بشأنها. ‘‘قبل ستة أشهر تقريباً، أعتقد. أتذكر ذلك عندما ذهبت أستمتع بأزهار الكرز. كانت هذه أول مرة.’’

‘‘ قد يكون هذا أمراً غريباً أن أسال عنه، ولكن هل فقدت أي شيء في ذلك الوقت.نوع من بطاقات الهوية ، مثل رخصة القيادة، جواز سفر، بطاقة التأمين؟’’

زمّت شفتيها، سرحت بأفكارها للحظة. ‘‘ أتعلم، ما ذكرته الآن، فقدت رخصة القيادة في ذلك الوقت. حدث ذلك في وقت الغذاء جلست على مقعد الحديقة، أحظى باستراحة، وضعت حقيبة اليد بجواري على المقعد. أعدت تزيين شفتي بمرآتي و عندما ألتفت مجدداً، اختفت حقيبة اليد. لم أستطع أن أفهم ذلك. أشحت بنظري لثانية فحسب، لم أشعر بوجود أي شخص قريب أو أسمع خطوات وقع أقدام. بحثت حولي، ولكن كنتُ وحيدة. الحديقة هادئة، ومتأكدة لو أتى شخص ما لسرقة حقيبتي كنت سألاحظ ذلك. ’’

انتظرتها لتواصل حديثها

‘‘هذا ليس كل ما حدث غريباً. تلقيت مكالمة في نفس الظهيرة من الشرطة، تخبرني بأنهم قد عثروا على حقيبتي. قد وضعت في الخارج بالقرب من  مركز شرطة صغير قرب الحديقة . كانت المبالغ النقدية  ما زالت داخلها، وكذلك البطاقات الائتمانية، وبطاقة الصراف الآلي ، و الهاتف النقال. كلها هنا، لم تلمس. لقد فقدت رخصة قيادتي فحسب. فوجئ الشرطي تماماً.  من الذي  لا يأخذ المبالغ النقدية، الرخصة فقط، و يترك الحقيبة في الخارج بالقرب من مركز الشرطة؟’’

تنهدت بهدوء ، ولكن لم أقل شيئاً.

‘‘حدث هذا نهاية شهر مارس. ذهبت في الحال إلى مكتب السيارات في ساميزو و طلبت منهم إصدار رخصة جديدة. كانت الحادثة برمتها غريبة كلياً، ولكن من حسن الحظ لم يكن ثمّة أي أذى حقيقي.’’

‘‘ساميزو في شيناغاوا ، أليس كذلك؟’’

ردّت‘‘ نعم هذا صحيح. إنها في هيقاشيوي. شركتي في تاكاناما،  لذا مشوار سريع بالتاكسي’’ ألقت نظرة متشككة إليّ. ‘‘ هل تعتقد أن ثمّة صلة بالموضوع. بين عدم تذكر اسمي و فقدان الرخصة؟’’

هززت رأسي سريعاً. لم أستطع طرح  قصة قرد شيناغاوا بالضبط.

قلت لها ‘‘ كلا.لا أعتقد بأن ثمّة صلة .’’ ‘‘ إنما خطرت في بالي فحسب. بما أنه يتضمن اسمك.’’

بدت غير مقتنعة.  أعرف بأنّه ينطوي على مخاطرة ، ولكن ثمّة سؤال آخر مهم للغاية يتعين عليّ أن أسألك.

‘‘بالمناسبة ، هل رأيت أي قرود مؤخراً؟

سألتني ‘‘ قرود’’ . ‘‘ هل تعني الحيوانات؟’’

قلت لها ‘‘ نعم . قرود حية حقيقية’’

هزت رأسها  ‘‘ لا أعتقد بأنني قد رأيت قرداُ لسنوات.  ليس في حديقة حيوانات، أو أي مكان آخر.’’

هل عاد قرد شيناغاوا إلى خُدعه القديمة؟  أو  أكان قرداً آخر يستخدم لارتكاب نفس الجريمة؟ ( قرد نسخة؟) أو شيء ما آخر ، غير ذلك القرد يفعل هذا؟

لم أرد حقاً أن أفكر بشأن قرد شيناغاوا بعودته لسرقة الأسماء. لقد أخبرني بالحقيقة تماماً ، بأنه يخبئ أسماء سبعة نساء بداخله يجده كثيراً كما يقول ، و بأنه سعيد بالعيش ببساطة حياته المتبقية بهدوء في المدينة  ذات الينابيع الساخنة. بدا أنه يعني ذلك.  ربما القرد لديه حالة نفسية مزمنة، أحد أسباب عقله  الذي لا يمكن السيطرة عليه. وربما حثه كلا ً من مرضه، والدوبامين على فعل ذلك ! و من المحتمل لاحقته كل تلك الوساوس في شيناغاوا، للعودة إلى عاداته السابقة الضارة .

ربما سأحاول بنفسي في وقت ما . يتدفق هذا الفكر العشوائي والخيالي في الليالي المؤرقة أحيانا. سأسرق بطاقة الهوية أو بطاقة اسم لامرأة أحبها ، سأنبه فكري عليها مثل الليزر، واسحب اسمها من داخلي، واستحوذ جزءًا منها، كلها إلى نفسي . كيف يبدو ذلك الشعور؟

كلا. لن يحدث ذلك إطلاقاً. لم أكن ماهراً في خفة اليد إطلاقاً، و ليس بمقدوري أن أسرق شيئا ما يعود إلى شخص آخر. حتى لو لم يكن هذا الشيء شكلاً جسدياً، و سرقتها لم تكن مخالفة للقانون.

حبٌ متطرف ، و وحدة كافرة.  منذ ذلك الحين، أينما أسمع إلى سيمفونية بروكنر أفكر في الحياة الشخصية لقرد شيناغاوا. أتصور ذلك القرد المسن في المدينة ذات الينابيع الساخنة، داخل علّية نُزل متهدم ، نائماً على فوتون رقيق. أفكر بالوجبات الخفيفة- كاكيبي و الحبّار المجفف- التي استمتعنا أثناء شربنا الجعة معاً، و أسندنا أنفسنا  على الجدار.

لم أر محررة مجلة السفر الجميلة منذ ذلك الحين، لذا ليس لدي أي فكرة ما المصير الذي لحق باسمها بعد ذلك. أتمنى أنه لم يسبب لها أي معاناة حقيقة. فهي بريئة بعد كل الذي حدث. لم يكن خطأهُا . أشعر بسوء حيال ذلك، ولكن ما زلت لا يمكنني إجبار نفسي لأخبرها بشأن قرد شيناغاوا.

تمت .

*زنّاءة : أنثى القرد

Published in the print edition of the June 8 & 15, 2020, issue.

Haruki Murakami published his fourteenth novel in English, “Killing Commendatore,” last year.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى