اِلتزامات أندريس ريفيرا ترجمة: توفيق البوركي
اِلتزامات
أندريس ريفيرا (1928-2016) *
ترجمة: توفيق البوركي (المغرب)*
ما زلت إلى الآن أتذكّر ذلك المساء، حين لمحتُ وأنا مارّ على رصيف الميناء شيئًا يلمع داخل سلّة مهملات صغيرة. وبفضول مبرّر في طبعي بوصفي هاوي التقاط الأشياء، انحنيت لأخذه ومن ثمّ فركته بطرف حقيبتي. وهكذا استطعت أن أتبيّن أنّ الأمر يتعلّق بشِعار صغير من الفضّة تتخلّله رموز بدت لي غامضة لحظتئذ. وضعته في جيبي وعدت إلى المنزل دون أن أولي الأمر اهتمامًا كبيرًا. لم أستطع أن أحدّد بدقّة كم مرّ عليه من الوقت محفوظًا داخل جيب تلك السّترة، التي لم أكن أستعملها إلاّ فيما ندر. ما أتذكّره فقط، أنّني أرسلتها في إحدى المناسبات للتّنظيف. ويا للمفاجأة الكبيرة حين أعادها إليّ المستخدم نظيفة ومعها علبة صغيرة، وهو يقول: “من المفترض أنها لك، فقد وجدتها في جيب سترتك”.
وقد كان ما بداخلها، طبعًا، هو ذلك الشّعار. هذه الاستعادة غير المتوقّعة، حمّستني إلى حدّ أن قرّرت تعليقه.
ومنذ تلك اللحظة بالذّات انطلق، فعليًّا، مسلسل الأحداث الغريبة التي حصلت معي. وأوّلها كان داخل مكتبة للكتب المستعملة. فبينما كنت أتصفّح مجلّدات قديمة، اقترب منّي صاحب المحلّ، الذي كان يراقبني منذ وقت قصير من ركن مظلم داخل مكتبته؛ وبنبرة متواطئة امتزجت بحركات وإيماءات مألوفة، قال لي: “نتوفّر هنا على بعض كُتب فايفر”. نظرت إليه مندهشًا لأنّني لم أسأله عن هذا الكاتب الذي كنت أجهله تمامًا، فمعرفتي بالأدب لم تكن معرفة واسعة. ثُمّ أضاف: “فايفر عاش في بِلسن”، وقبل أن أتخلّص من دهشتي، واصل الكُتبي بنبرة مُكاشِفة وواثقة: “عليك أن تعلم أنّه لقي حتفه، ضربًا بالهراوات، في محطّة القطار ببراغ.” وبعد أن أنهى كلامه عاد إلى الركن الذي أتى منه ليغرق في صمت مطبق. واصلت تصفّح بعض المجلّدات بشكل آلي، لكنّ تفكيري كان مشغولاً بالكلام الغامض الذي باح به الكُتبيّ. غادرت المحلّ، مشتّت البال، بعد أن اقتنيت كُتيّبًا عن الميكانيك.
بقيت لبعض الوقت أفكّر في معنى تلك الحادثة لكن بما أنّني لم أتوصّل إلى نتيجة تُذكر، انتهيت إلى نسيانها. وبدون سابق إنذار، فُوجئت بحادث أفزعني للغاية. فقد كنت أتجوّل في ساحة بضواحي المدينة، عندما بادرني، بشكل مباعث، رجل هزيل البنية، مصفرّ الوجه وبارز الملامح، وقبل أن أقوم بأيّ ردّ فعل، دسّ بين يدي بطاقة واختفى دون أن ينبس بكلمة. كانت بطاقة بيضاء من الورق المقوّى؛ تحمل عنوانًا فقط وجملة تقول: الاجتماع الثّاني. الثّلاثاء 4. وفي اليوم المفترض ذهبت إلى العنوان المحدّد. وقد صادفت هناك العديد من الغرباء يحومون حوالي المكان. وقد كانوا، ويا للصّدفة الغريبة، يحملون شعاراً مماثلاً لشعاري. اندمجت وسط الحلقة، ولاحظت أنّ الجميع يصافحني بمودة وألفة. ثمّ ولجنا بعد ذلك إلى المنزل المحدّد وأخذ كلّ منّا مكانه داخل قاعة فسيحة. ومن خلف ستارة طلع علينا شخص يوحي مظهره بالوقار. حيّانا وجلس إلى المنصّة ثم شرع في حديث لا ينتهي. لا أعلم بدقّة الموضوع الذي دارت حوله المحاضرة، إن جاز أن نسمّيها فعلاً محاضرة. امتزجت فيها ذكريات الطّفولة مع بعض التّأملات الفلسفيّة العميقة، وتحدث باستطراد عن تقنيات زراعة قصب السكر مستعملاً نفس المنهج في الحديث عن تنظيم مؤسسات الدّولة. وأتذكّر أنه ختم كلامه وهو يرسم خطوطًا حمراء على أحد الألواح بطبشور أخرجه من جيبه.
عندما انتهى، قام جميع الحاضرين وشرعوا في المغادرة، وهم يثنون بحماس منقطع النّظير على نجاح المحاضرة. ومجاملة منّي وجدتني أضم ثنائي إلى ثنائهم، لكن في اللّحظة التي هَممْت فيها باجتياز العتبة، توجّه إليّ المُحاضِر بنبرة تعجبيّة، وما إن التفتّ حتى أشار إليّ بالاقتراب.
-أنت جديد هنا أيها السّيد. أليس كذلك؟
-بلى-أجبت بعد تردّد قصير، فقد عجبت من قدرته على تمييزي وسط هذا الحشد-انضممت منذ فترة قصيرة.
-ومن أدخلك؟
لحسن حظّي تذكرت المكتبة.
-كنت في المكتبة الموجودة في شارع أمارغورا، حين…
-من؟ مارتين؟
-نعم، مارتين.
-آه، إنّه من أكبر المتعاونين معنا.
-وأنا واحد من أقدم زبنائه.
-وعمّ تحدّثتما؟
-حسنا… عن فايفر.
-بم أخبرك عنه؟
-قال بأنّه عاش في بِلسن. في الحقيقة… لم أكن أدري.
-لم تكن تدري؟
– كلاّ-أجبت بهدوء كبير.
-ولم تعلم أيضًا أنه لقي حتفه ضربًا بالهراوات في محطّة القطار ببراغ؟
-لقد أخبرني بهذا الأمر أيضًا.
-كان الأمر مرعبًا بالنّسبة لنا.
-طبعا-قلت بتأكيد-إنّها خسارة لا تعوّض.
ثم دخلنا في دردشة غامضة وعابرة، عجّت بمُسارّات غير متوقّعة وتلميحات سطحيّة، كالتي يتداولها شخصان غريبان يجلسان متجاورين خلال سفر عارض على متن حافلة. فعلى ما أتذكّر كنت أجاهد لأصف له تفاصيل العمليّة التي أجريتها على اللّوزتين، في حين كان هو يشير بإيماءات واسعة إلى جمال المناظر الطّبيعية في الدول الاسكندنافية. أخيرًا وقبل أن أغادر المكان، كلّفني بمهمّة أثارت استغرابي.
-في الأسبوع المقبل-قال-أحضر لي قائمة بجميع أرقام الهواتف التي تبدأ بالرّقم 38.
وعدته بإنجاز المطلوب، وقبل الموعد المحدّد كنت قد حصلت على اللائحة.
-رائع أيها السّيد-قال بتعجّب-تعمل بسرعة مثاليّة.
ومنذ ذلك اليوم، أنجزت سلسلة من المهامّ المماثلة والأكثر غرابة. فمثلاً، كان عليّ أن أحصل على دزينة من الببغاوات، التي لم أعد إلى رؤيتها مطلقًا. لاحقًا تمّ إرسالي إلى إحدى مدن الإقليم لأنجز رسمًا تخطيطيًّا لمبنى البلديّة. أتذكّر أيضًا أنّني كُلّفت برمي قشور الموز على أبواب بعض المنازل التي تمّ تحديدها بدقّة، ثمّ كتبت مقالاً عن الأجرام السماويّة لم يجد طريقه إلى النّشر، ودرّبت قردًا على التّواصل بالإشارات، وقمت أيضًا بتنفيذ بعض المهام ذات الطّابع السّري، مثل توصيل رسائل أجهل فحواها أو التّجسس على نساء أجنبيات كنّ يختفين عن الأنظار دون ترك أثر.
وعلى هذا المنوال، وشيئًا فشيئًا بدأت أكسب نوعًا من التّقدير والاعتبار. وخلال عام واحد رُقّيتُ في احتفال بهيج. “لقد ارتقيت درجة أيّها السّيد” قالها رئيسي المباشر وهو يعانقني بلطف زائد. كان عليّ حينها أن ألقي كلمة مختصرة بالمناسبة، أشرت فيها بكلام مبهم إلى مهمّتنا المشتركة. وقد تلقّاها الحاضرون، بالرغم من ذلك، بالهتاف والتّصفيق.
في المقابل، كان الوضع في منزلي ملتبسًا. لم يفهموا سرّ غياباتي المتكرّرة وتصرّفاتي التي تُحيطها السّرية. وفي المرّات التي أُسأل فيها، كانت إجاباتي مُراوِغة لأنني في الحقيقة لم أكن أجد جوابًا واحدًا مُقنعًا. بعض الأقارب نصحوني بعرض نفسي على طبيب نفساني، فسلوكي لم يكن يمتّ بصلة لسلوك رجل عاقل. خصوصًا بعدما فاجأوني وأنا أصنع مجموعة من الشوارب المزيّفة والتي كانت بتكليف من رئيسي المباشر.
لم تَحُل تلك المناوشات الأسريّة من مواصلتي العمل بحماس وحيويّة، لم أستطع أنا نفسي إيجاد تفسير لذلك، لخدمة قضايا منظّمتنا. وفي ظرف وجيز صرت مقرّرا ثمّ أمينًا للمال ومساعدًا في تقديم المحاضرات ومستشارًا إداريًا. وكلّما حزت مرتبة متقدّمة داخل المنظّمة إلاّ وزادت حيرتي، فأنا لا أعلم إنْ كنت عضوًا في طائفة دينيّة أو عضوًا في تكتّل لصنّاع النّسيج.
في عامي الثّالث أرسلوني إلى الخارج. كان سفرًا مثيرًا جدًّا. لم أكن أملك سنتيمًا واحدًا؛ لكن بالمقابل كنت أُمنحُ أفضل القُمرات داخل السّفن، وفي الموانئ دائمًا ما أجد شخصًا يستقبلني ويحيطني بالاهتمام، وفي الفنادق يعرضون عليّ خدماتهم دون أن يُطالبوني بشيء. وهكذا نسجت علاقات مع أعضاء أخويّات أخرى، وتعلّمت لغات أجنبيّة وألقيت محاضرات ودشّنت فروعًا لمنظّمتنا، وتابعت كيف انتشر الشّعار الفضّي في جميع تخوم القارّة.
عندما عدت، بعد عام مليء بالتّجارب الإنسانيّة، كنت حائرًا مثلما حصل معي أول مرة داخل مكتبة مارتين.
مرّت عشر سنوات، وتمّ تعييني رئيسًا بفضل كفاءاتي الخاصّة. وأرتدي خلال الاحتفالات الكبرى عباءة أرجوانيّة ذات حواش، والأتباع يعاملونني باحترام وتوقير. وقد أصبح لي راتب قدره خمسة آلاف دولار، والعديد من المنازل داخل المنتجعات، وخدم بلباس رسمي يبجّلونني ويخافونني، وأيضًا امرأة فاتنة تزورني كلّ ليلة دون حاجة لأنْ أطلبها. ورغم كلّ ذلك، فأنا الآن أعيش في جهل مطلق، إذ لو سألني أحد ما عن معنى ما نقوم به داخل المنظّمة، فلن أستطيع إجابته. بل سأكتفي برسم خطوط حمراء على لوح أسود، وسأنتظر وكلّي ثقة في النّتائج الحتميّة، التي سيحدثها على الدماغ الإنساني كلّ تفسير مؤَسّس على تعاليم القبّالة.
(ليما 1952)
ــــــــــــــــــــــــــ
النص مأخوذ من النسخة الإلكترونية لمجلة سُودِسْتادا الأرجنتينية:
http://www.revistasudestada.com.ar/articulo/371/obligaciones-un-cuento-de-andres-rivera/
الكاتب في سطور:
*أندريس ريفيرا: (Andrés Rivera)
واسمه الحقيقي ماركوس ريباك، كاتب أرجنتيني من أم أوكرانية هاجرت بسب ظروف الحرب، وأب بولندي اسمه موازيس ريباك فر من البلاد بسبب انتمائه للحزب الشيوعي. ولد ريفيرا في 12 ديسمبر سنة 1928 بحي فيلا كريسبو، المعروف بالحي اليهودي، بالعاصمة بوينس آيرس. اشتغل في بداياته في مصانع النسيج وكان مناضلا داخل الحزب الشيوعي الأرجنتيني إلى أن طُرد منه سنة 1964. عمل في الصحافة محررا في العديد من الجرائد والمجلات المحلية، وتفرغ بعدها للكتابة الأدبية. خلف مجموعة من الأعمال الأدبية زاوج فيها بين كتابة القصة والرواية ومن أهمها:
الأعمال الروائية:
– الثمن (1956).
– الذين لا يموتون (1959)
– لا شيء نخسره (1982)
– مراهنات (1986)
– الثورة ذلك الحلم الأبدي (1993)
– المزارع (1996).
المجاميع القصصية:
– شمس يوم السبت (1962)
– موعد (1962)
-تصفية حسابات (1972)
-قصص مختارة (2000)
الجوائز:
من أهم الجوائز التي نالها في مساره الأدبي:
-الجائزة الوطنية للآداب سنة 1992.
– جائزة الصندوق الوطني للفنون والآداب سنة 2011.