«البحث عن الزمن المفقود» لبروست: حيرة المبدع بين الوعي والزمن
منذ الربع الأول من القرن العشرين قيل دائماً إن الرواية بعد جيمس جويس ومارسيل بروست، لم تعد حالها كما كانت قبلهما. الأول هو الإرلندي صاحب «يوليسيس»، والثاني هو الفرنسي صاحب «البحث عن الزمن المفقود»، وعادة ما يضاف إليهما الألماني روبرت موتسيل، ليشكل الثلاثة معاً، زمرة الآباء المؤسسين الرواية الحديثة في القرن العشرين.
وإذا كان موتسيل قد اهتم بخاصة في روايته الكبيرة «الإنسان البلا – سمات»، بالحديث عن موقع إنسان العصر من التغيرات، إذ فرض عليه العصر أن يكون بلا ملامح أو سمات، وإذا كان جويس قد اهتم خصوصاً بتيار الوعي المتدفق والمسيطر على الزمنين الجوّاني والبرّاني (الذاتي والموضوعي) فإن الزمن هو الذي شكل لدى مارسيل بروست هاجساً أساسياً، لا سيما في مجال علاقته – أي علاقة الزمن – بالوعي.
وما رواية «البحث عن الزمن المفقود» سوى السعي الذي قام به مارسيل بروست، طوال السنوات الأخيرة من حياته، وسط يأسه ومرضه، للوصول إلى ذلك التعبير الضروري عن علاقة الوعي بالزمن. ولئن كان بروست قد بدأ في كتابة الأجزاء السبعة التي تؤلف متن روايته الكبيرة هذه، منذ عام 1907، فإنه حين رحل عن عالمنا في عام 1922، لم يكن قد انتهى من كتابتها كلها بعد، ومن هنا ظلت هذه الرواية التي نشر الجزء الأخير منها في عام 1927، أي لاحقاً لموت المؤلف، ظلت من دون اكتمال… والحقيقة أن بروست لو عاش أكثر ولو كتب أكثر لكان مقدرا للرواية أن تبقى على الدوام غير مكتملة، طالما أنها، أصلاً رواية عن الزمن، وطالما أن الزمن لا يمكنه أبداً أن يكتمل. ويزيد من يقيننا هنا أن بروست نفسه، كان يقول في مجالسه الخاصة – وكان يبرهن في ثنايا كتابته دائماً على – أن ما يتوخاه من هذه الكتابة إنما هو استعادة الزمن الذي يمضي والتمسك به، إذ بالنسبة إليه الزمن الماضي هو كل شيء نملكه… ونحن لا يمكننا أن نتمسك بهذا الزمن إلا عبر وسيلتين لا ثالثة لهما: إما الذاكرة اللاإرادية، أو الأعمال الفنية الإرادية. وهو إذ كتب «البحث عن الزمن المفقود» إنما كان يخلق ذلك العمل الفني الذي يحمل الذاكرة اللاإرادية في ثناياه.
عندما شرع مارسيل بروست، منذ عام 1907 في كتابة الجزء الأول من سفره الكبير، في عنوان «من جانب سوان» (وهو لم ينشر إلا في عام 1913) لم يكن في الحقيقة ليتصور أن إنجاز العمل سيستغرق سبعة أجزاء وألوف الصفحات، ويشغل كل ما تبقى له من سنين. كان العمل يتولد من داخله شهراً بعد شهر أو عاماً بعد عام، من دون تخطيط شامل مسبق. وكانت الكتابة تتدفق تدفق نظرة بروست إلى الفن والمجتمع والزمن، وما يمكن أن تكون عليه نظرات وتطلعات راويه، المسمى أيضاً مارسيل، وهو يتنقل في ثنايا الزمن وثنايا المجتمع وثنايا ذاته الداخلية في علاقتها مع هذين. والحقيقة أن توغل الراوي – البطل، في العمل كان يمر عبر الكثير من العناصر الخارجية التي كانت سرعان ما تصبح جزءاً من داخليته: سيكولوجية العلاقات العائلية، العلاقات الجنسية، العلاقات مع الفن لا سيما الموسيقى والرسم والكتابة القصصية، إضافة إلى تأمل متهكم للمجتمع الفرنسي المتحذلق في ذلك الزمن الانعطافي من حياة هذا المجتمع «الما – بعد – درايفوسي».
غير أن قول هذا كله يجب ألا يبعدنا عما هو أساسي: فالرواية هذه إنما كانت، بالنسبة إلى مارسيل بروست، ميدان صراعه مع الزمن على اعتباره العدو الأول والأكبر للإنسان. فبروست الذي كان يشعر بعزلة مرعبة منذ وفاة أمه في عام 1905 وشعوره بالانعتاق المريع من أية روابط أسرية، أحس للمرة الأولى خلال وجوده بأنه وحيد في مواجهة دائه الذي يحصي عليه ساعات عمره وأيامه… وهكذا راح يشعر بأن العتمة تزيد في حياته والصمت يزداد تخييماً. ولم يعد غريباً للسيد/ الأنا/ الراوي الذي بدأ يحضر منذ «من جانب سوان»، أن يواصل حديثه واصفاً ما تعكسه الذاكرة وتراكمه من أحداث وعلاقات وشخصيات، إذ إن هذه كلها «راحت بالتدريج تطالب بحقها في أن تعود إلى الحياة من جديد: لكنها هذه المرة ستفعل تماماً عكس ما كان متوقعاً منها أن تفعله في الجزء الأول». أما الأجزاء التالية فقد حملت عناوين: «في ظل الفتيات الحاملات الزهور»، و «جانب غرمانت» و «سادوم وعمورة» و «السجينة» و «البرتين تختفي» (التي حملت لاحقاً عنوان «الهاربة») وأخيراً «الزمن المستعاد».
وفي شكل عام يمكننا اعتبار «البحث عن الزمن المفقود» رواية دائرية – «بيكارية» إلى حد ما – من ناحية بنيتها، إذ إنها تنتهي في الصفحات الأخيرة التي كتبها بروست، بالراوي مارسيل وهو يكتشف في ذاته مواهب فنية، وهو اكتشاف سيقوده إلى كتابة هذه الرواية التي يكون القارئ قد انتهى لتوه من قراءتها، في أجزائها السبعة. أما المزاج الغالب على العمل ككل، وعلى مواقف مارسيل – الراوي – فهو مزاج الضياع واليأس وفقدان القدرة على التكيّف مع تجربة الماضي، والبؤس إزاء خواء العلاقات الاجتماعية… أما السعي البشري، فإنه هنا لا يُرى إلا عبر منظور قوة الزمن التدميرية.
إن الذين نظروا إلى هذا العمل، على أنه عمل فلسفي في المقام الأول، انطلاقاً من دلالاته، لم يكونوا على خطأ، حتى وإن قاد بحثهم أحياناً إلى الاستنتاج بأن الجانب الفكري – الفلسفي للرواية يغلب جانبها الفني الإبداعي، ذلك أن «البحث عن الزمن المفقود» تعتبر واحدة من أولى الروايات في القرن العشرين التي تنطلق، وإن لم يكن عن قصد مدروس بالطبع، من «ظواهرية» هوسرل لتعبّر عن الفن الكامل في عملية وصف عالم لا يوجد إلا في داخل الوعي الفردي، حيث يكون في الإمكان الموافقة مع النقاد الذين رأوا أن «الاهتمام الظواهري في عمل بروست إنما يكمن في وصوله إلى تحليل معمّق لوعي استفزازي ومرهف إلى الحدود القصوى»، لا سيما أن ثمة في داخل هذا التحليل إمكانية لبروز نوع من البعد المثالي لحالات الوعي والمشاعر والحيوات الداخلية للشخصيات. إذ، ولا بد من قولها مرة أخرى، لدى بروست ثمة تشارك كامل بين الوعي والزمن، المتكونين هنا كشريكين لا انفصال بينهما. فـ «الزمن هو أساس الوعي، والوعي أساس الزمن»، كما يؤكد واحد من المختصين الفرنسيين في أدب بروست، الذي يضيف: «أن بروست يتحدث، من ناحية عن الزمن بلغة تتوافق مع لغة الميتافيزيقا الكلاسيكية، تلك اللغة التي هيمنت على الفلسفة، منذ أرسطو وحتى برغسون وهوسرل، وحتى أتى هايدغر، ليبرهن على أن الزمن والأبدية يتناقضان، ويخوض من ناحية ثانية في زمن أبدي، زمن آخر، هو الزمن المستعاد».
والحال أن مارسيل بروست، في صراعه مع الزمن، ذلك الصراع الذي كانت الرواية ميدانه، يبدو مرهف الحس، بخاصة أنه عاش على مفترق قرنين يتناقضان بمقدار ما يتكاملان، ويبدو أنه جعل سلاحه الأول التعامل مع زمن خاص، التقطه من الذاكرة وأطلعه إلى الوجود المحسوس، هرباً من أيام كانت بالنسبة إليه معدودة، بمعنى أن الذات لديه، لعبت الدور الأول في خلق عالم الزمن الخاص.
ولد الكاتب الفرنسي مارسيل بروست عام 1871، وكان منذ طفولته مولعاً بالموسيقى بين فنون أخرى، ومن هنا اتجه باكراً إلى الفن والأدب وقد آلى على نفسه أن يكون ناقداً وكاتباً ثم روائياً، ولقد كان له ما أراد، وأصبح – بخاصة بفضل «البحث عن الزمن المفقود» – واحداً من أكبر كتاب بداية القرن العشرين. ومع هذا لا بد من أن نذكر أن أعماله الأولى، مثل «الملذات والأيام» لم تلفت النظر حقاً، كذلك لا بد من أن نشير إلى أن كتاباته النظرية، لا سيما كتابه ضد سان – بوف، لم ترسخ له مكانة نقدية حقيقية… لذلك، كان عليه أن يكتفي بالسمعة المميزة التي جعلتها له روايته الأساسية والكبرى «البحث عن الزمن المفقود»، والتي تعتبر من أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين.
بقلم:ابراهيم العريس