فرجينيا وولف : لماذا نقرأ ؟ و ماهي أوجه الشبه بين أعظم الأعمال الأدبية ؟
فرجينيا وولف : لماذا نقرأ ؟ و ماهي أوجه الشبه بين أعظم الأعمال الأدبية ؟
بقلم : ماريا بوبوفا .
ترجمة : دلال الرمضان
” تترابط عقولنا ,نحن البشر, ببعضها البعض . فكل عقل متقد اليوم , يحاكي عقولاً عظيمة كانت موجودة فيما مضى , أمثال” أفلاطون ” و “يوربيديس ” إذ يمثل تطوراً و استمرارية للشيء ذاته . إنه ذلك الفكر المشترك الذي يربط العالم بأسره .فالعالم , في جوهره , ليس سوى فكر”
لقد أدرجت ” باتي سميث ” (1) ضمن قائمة المعايير التي وضعتها لتصنيف الروائع الأدبية , قدرة هذه الأعمال على سحر قارئها إلى الحد الذي يشعره بضرورة إعادة قراءتها مرة أخرى. في حين اعتبرت ” سوزان سونتاغ ” (2) أن عملية إعادة القراءة , تلك , هي بمثابة ولادة جديدة للنص . و أظنني أُوافقهما الرأي في ذلك , عن طيب خاطر , لأنني أواظب على قراءة رواية ” الأمير الصغير “(3) مرة في كل عام . إذ أجدها تبوح لي , في كل قراءة , بمعان جديدة , ومرممات وجودية لكل ما يمكن أن يعكر صفو حياتي في تلك اللحظة .
قد نلجأ , نحن القراء , إلى إعادة قراءة بعض الأعمال المحببة إلينا , لأننا ندرك عدم استمرارية التجارب الإنسانية , بالإضافة إلى آنية تلاقي الحالات و الظروف التي تكوّن الذات البشرية في أية لحظة من الزمن . ناهيك عن إدراكنا لتطور شخصياتنا في العام المقبل , إذا ما قورنت بها في العام الفائت , لتغدو أكثر نضجاً في مواجهة كافة التحديات , و الآمال, و الأولويات . حيث تصبح ذاتاً جديدة , مختلفة كلياً عنها فيما مضى .
كانت ” فرجينيا وولف ” في الحادية و العشرين من عمرها حين سجلت هذا الاعتراف , بصفاء ذهني لا يضاهى , و ألق لغوي فريد . ففي صيف عام 1903 , انزوت ” وولف ” بعيداً عن صخب مدينة لندن, لتذهب في إجازة قضتها بين رحابة , و خضرة الريف الإنكليزي , لتستمتع بعزلتها , وتقرأ ما يحلو لها .
ربما بلغت قراءتي خلال هذه الأسابيع الثمانية في الريف , ما يفوق ما أقرؤه في ستة أشهر أثناء وجودي في لندن .
في غضون تلك الرحلة الاستجمامية مزدوجة الفائدة , والتي حققت فيها مكسب القراءة والتأمل , وصلت ” وولف ” إلى اكتشاف السبب الحقيقي الذي يجعلنا نقرأ , بالإضافة إلى ما يمكن للكتب أن تقدمه للروح الإنسانية , وكيف لها أن تمهد لما أسمته ” إيريس مردوك “(4) ” فرصة للتجرد من الأنانية ” وكيف يمكن للكتب أن تؤدي براعتها المذهلة في كونها تنشأ عن ذهن شخص معين , لتتمكن من الوصول, بهذه الحميمية, إلى آلاف , أو ربما ملايين الأشخاص عبر الزمان و المكان , في عملية تداخل بين مختلف المشاعر, ضمن تجربة تشاركية واسعة.
في الأول من يوليو , كتبت ” وولف ” في مذكراتها ما يلي :
إضافة إلى الكتابة , فإنني أقرأ الكثير . بيد أن الكتب هي أكثر الأشياء التي أستمتع بها .
في بعض الأحيان , أشعر بأجزاء من دماغي تتسع و تكبر أكثر فاكثر , و كأنها تنبض بدم متجدد , بشكل أسرع من ذي قبل. وليس هنالك شعور أكثر لذة من هذا الشعور . أما حين أقرأ التاريخ , فكل شيء يصبح ,على حين غرة , نابضاً بالحياة. متفرعاً جيئة و ذهاباً , مرتبطاً بكل أشكال الأشياء التي كانت بعيدة في الماضي . وكأنني أشعر, على سبيل المثال , بتأثير ” نابليون ” على أمسيتنا الهادئة في الحديقة . لأرى كيف ترتبط عقولنا ببعضها البعض , وكيف يمكن لأي عقل متقد أن يحمل التركيبة ذاتها التي كونت عقل ” أفلاطون ” أو ” يوربيديس ” إنها عملية تتمة و تطوير لذات الشيء .هو ذلك الفكر المشترك الذي يربط العالم بأسره , فالعالم , في جوهره , ليس سوى فكر .
في وقت لاحق من حياتها , كتبت ” وولف ” في وصفها الرائع لإدراك معنى أن تكون مبدعاً, ما يلي :
ثمة مثال يكمن خلف كل حالة ضبابية . هذا العالم عبارة عن عمل إبداعي . لا وجود لـ ” شكسبير ” فنحن الكلمات في أعماله , أو ” بيتهوفن ” فنحن الألحان في موسيقاه , ولا لإله , فنحن الشيء بعينه .
بعد بلوغها الحادية والعشرين من العمر , تمكنت ” فرجينيا ” من إدراك آنية هذه اللمحات الجزئية للحقيقة , وكيف يمكن لهذا الشعور بالانتماء الداخلي , أو ذاك الشعور بالكينونة, أن ينزلق من بين أيدينا . تكمل ” وولف ” تدوين ذات المذكرات التي كتبتها في عام 1903 بلفتة رشيقة من إدراكها أن ” العالم بأسره ليس سوى فكر ” إلى ذاك الهروب المألوف للمعنى , حينما تجتاحنا تلك الحالة الضبابية لتحيلنا غرباء , مرة أخرى :
ثم أقرأ قصيدة تقول _ ذات الشيء يتكرر . لأشعر أنني تمكنت من القبض على المعنى الجوهري للعالم , و كأن كل هؤلاء الشعراء والمؤرخين و الفلاسفة يتبعون طرقاً تتفرع عن ذاك المركز , حيث أقف . ليعتريني بعض الاضطراب بعدها , فيؤول كل شيء للخطأ من جديد .
وبعد أكثر من عقد من الزمن , كررت ” وولف ” وجهة النظر ذاتها, في واحدة من مقالاتها الاستثنائية التي كتبتها في غضون عملها كناقدة في الملحق الأدبي لصحيفة التايمز البريطانية , والتي تم جمعها , مؤخراً , في كتاب تحت عنوان { نبوغ و حبر : مقالات للكاتبة فرجينيا وولف حول كيفية القراءة } هذا الكتاب الذي كنت سأدرجه, بكل شغف , ضمن قائمة كتبي المفضلة لهذا العالم , لو كنت من أولئك الذين يفضلون إعادة قراءة الروائع الأدبية المحببة إلى قلوبهم .
كما هو حال الشاعرة البولندية الحائزة على جائزة نوبل للأدب ” فيسوانا شيمبورسكا ” التي اتسم نقدها التأملي بكونه يوظف الكتب كنقطة انطلاق لتأملات سامية حول الفن والحياة , أكثر من كونها نماذج للمراجعة أو النقد , تعامل ” وولف ” كل كتاب تقوم بمراجعته كحجرة سقطت من جيب معطفها في نهر الحياة (5) . حيث تقوم برصد الصيغة الأساسية للعمل , ومن ثم تراقب حلقات الإدراك التي تتنامى وتترقرق في نهر الوعي . في أولى مقالاتها من تلك السلسلة التي تناولت فيها روايات الكاتبة ” تشارلوت برونتي” , تبنت ” وولف ” وجهة نظر عميقة حول نشأة الروائع الأدبية , والذي نعاود الرجوع إليه مراراً, وتكراراً :
ثمة ميزة تتشارك بامتلاكها كافة الأعمال الأدبية الحقيقية . ففي كل قراءة لها , يلاحظ القارئ تغييرات طفيفة . كما لو أن نسغ الحياة يجري في أوراقها . أو أنها تمتلك , كما هو حال السماء و النباتات , القدرة على تغيير شكلها و لونها بين فصل و آخر . إن تدوين انطباع القارئ حول مسرحية ” هاملت ” بعد قراءتها في كل عام , من شأنه أن يصبح أشبه بسيرة افتراضية لكاتبها . فكلما ازدادت معرفتنا للحياة , كان لدى ” شكسبير ” تعقيباُ على ما عرفناه .
1.باتي سميث :كاتبة ومغنية أمريكية ( 30 ديسمبر 1946)
- سوزان سونتاغ : ناقدة و مخرجة وروائية أمريكية ( 16 يناير 1933 _ 28 ديسمبر 2004 )
- الأمير الصغير : رواية للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري
- إيريس مردوك : فيلسوفة و ناقدة إيرلندية .
- يقصد بها الإشارة إلى حادثة انتحار فرجينيا وولف , حيث ملأت جيوب معطفها بالحجارة و ألقت بنفسها في نهر أوز .